رؤية فلاسفة التنوير في فرنسا للإسلام

باحث فرنسي يكتب عن المشرق العربي في عصر الهيمنة الأميركية

المشرق العربي في عصر الهيمنة الأميركية المؤلف: هنري لورنس
TT

يمكن القول إن الباحث الفرنسي هنري لورنس هو أحد المهتمين بدراسة العلاقات بين الإسلام والغرب على مر العصور، والباحث المذكور هو أستاذ التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكوليغ دو فرانس. وهي أعلى من السوربون وأرقى مؤسسة علمية فرنسية ولا تضم إلا نخبة النخبة وكبار العلماء والمفكرين الفرنسيين.

وكان قد أصدر مؤخرا كتابا بعنوان: «المشرق العربي في عصر الهيمنة الأميركية». ولكنه درس أيضا كل مشكلات المنطقة سابقا وركز اهتمامه على دراسة العالم العربي بعد حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 وحتى اليوم. وبالتالي، فهو خبير في شؤون المنطقة ويعرف قضاياها الثقافية والدينية والسياسية جيدا.

ومؤخرا طرح هنري لورنس هذا السؤال: ما رؤية فلاسفة التنوير في فرنسا للإسلام؟ هل كانت سلبية يا ترى، أم إيجابية، أم بين بين؟ من المعلوم أن رؤية أوروبا وليس فقط فرنسا للإسلام كانت سلبية جدا طيلة العصور الوسطى: أي على مدار ألف سنة. وكانت رؤية لاهوتية مسيحية تحارب الإسلام من وجهة نظر دينية قديمة.

أما بعد الدخول في عصر التنوير، فإن الأمور اختلفت والمنظار تغير. فالفلاسفة من أمثال مونتسكيو، أو فولتير، أو ديدرو، أو جان جاك روسو لم يعودوا مسيحيين بالمعنى التقليدي للكلمة. وإنما أصبحوا علمانيين يرفضون الكهنوت والقرون الوسطى والرؤية القديمة للعالم.

بل وخاضوا حربا ضروسا ضد الأصولية المسيحية ذاتها. وبالتالي، فما عاد بإمكانهم أن ينظروا إلى الإسلام من وجهة نظر مسيحية تقليدية قروسطية. هذا هو المتغير الأول والأكبر. وهذا ما شرحه هنري لورنس بتوسع في الكتاب الجماعي الضخم، الذي أشرف عليه محمد أركون وأسهم فيه عشرات الباحثين والمفكرين من عرب وأجانب. عنوان الكتاب هو: تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. منشورات ألبان ميشال - باريس 2006.

في هذا الفصل الممتع، يصل الأمر بهنري لورنس إلى حد القول: والأنكى من ذلك هو أنهم استخدموا الإسلام كوسيلة للنيل من المسيحية! وهذا ما فعله فولتير في مسرحيته عن النبي «محمد» صلى الله عليه وسلم. فظاهريا يبدو وكأنه يهاجم الإسلام، ولكنه في الواقع كان يهاجم التعصب المسيحي من خلال الإسلام! وذلك على طريقة: إياك أعني واسمعي يا جارة.. فبما أنه لا يتجرأ على خوض المعركة مع «الإخوان المسيحيين» أو اليسوعيين على المكشوف، فإنه راح ينتقم منهم بشكل غير مباشر.

فمن يستطيع أن يعاقبه إذا ما هاجم الإسلام في فرنسا الكاثوليكية إبان العهد الأصولي القديم؟ أليس المجتمع كله ضد هذا الدين المنافس للمسيحية على مدار التاريخ؟ ولكنهم في ما بعد فطنوا إلى لعبته أو حيلته الماكرة، فأصبحوا يشعرون بالانزعاج حتى وهو يهاجم الإسلام، لأنهم أدركوا أنه يقصدهم هم وليس الإسلام. وعرفوا أنه يريد تصفية حساباته معهم من خلاله.

مهما يكن من أمر، فإن فلاسفة التنوير لم يكن هدفهم الدفاع عن المسيحية ضد الإسلام كما فعلت أوروبا طيلة قرون وقرون، وإنما كان هدفهم محاربة التعصب الأعمى من أي جهة جاء وإلى أي دين انتسب. وأعترف شخصيا بأني استخدمت منهجية فولتير نفسها ولكن بشكل معكوس. فبما أني لا أستطيع أحيانا أن أنقد الأصولية الإسلامية المتطرفة بشكل مباشر، فإني ألجأ إلى نقد الأصولية المسيحية لأن ذلك لا يكلفني شيئا. والواقع أننا، نحن المثقفين العرب، مغلوبون على أمرنا تجاه المتطرفين مثلما كان فلاسفة التنوير في فرنسا مغلوبين على أمرهم تجاه متطرفيهم، فالتنوير يكون أقلية في البداية، ثم ينتشر ويتوسع شيئا فشيئا حتى يشمل المجتمع بأسره.

وكل ذلك يتم عن طريق التربية والتعليم والصحافة الحرة والفضائيات ونشر الأفكار الجديدة لكي تحل محل الأفكار المتعصبة القديمة.. لكن بما أن هذه الأخيرة راسخة في العقلية الجماعية منذ مئات السنين، فإنه لا يمكن اقتلاعها من جذورها بسهولة.. وتجربة فلاسفة التنوير الفرنسيين أكبر دليل على ذلك، فلم تعط أكلها أو ثمارها إلا بعد سنوات طويلة. وذلك لأن الأفكار كالبذور التي تزرع في الأرض. فإذا ما لاقت تربة مواتية ومناخا مناسبا أزهرت وأينعت، وإذا لم تلق ماتت في أرضها.

أما الفيلسوف مونتسكيو، صاحب كتاب روح القوانين ونظرية فصل السلطات بعضها عن بعض، فقد كانت له أطروحة عن الإسلام تستحق الاهتمام. لا ريب في أنه كان يحارب التعصب الديني المسيحي والاستبداد السياسي المرتبط به كباقي فلاسفة التنوير. ومعلوم أن هذه القضية كانت شغلهم الشاغل. فاستبداد لويس الرابع عشر أو الخامس عشر كان مدعوما من قِبل الأصولية المسيحية، التي تخلع عليه المشروعية الإلهية، أي الحاكمية أو ولاية الفقيه بحسب مصطلحنا نحن.

ولكن مونتسكيو كان يعتقد أن سبب تخلف الشعوب الإسلامية يعود إلى البيئة والمناخ. فهي بيئة جافة وصحراوية أو شبه صحراوية ولا تساعد بالتالي على التفتح العقلي أو التسامح الديني أو الاستنارة الفكرية. وإنما هي بيئة مناسبة تماما لانتشار الأفكار الأصولية المتعصبة والاستبداد السياسي.

أما البيئة الأوروبية فهي معتدلة، باردة، ذات أمطار غزيرة وتربة جيدة صالحة للزراعة. وبالتالي، فهي مناسبة للحكم الديمقراطي والتسامح الديني والتقدم المادي والعلمي. إنها قادرة على إفراز صيغة أخرى من صيغ الحكم غير صيغة الاستبداد الأصولي. وهكذا فسر مونتسكيو سبب تقدم الأوروبيين وتخلف المسلمين عن طريق عوامل البيئة والمناخ.

ولكنه لم يجب لنا عن السؤال التالي: إذا كان كلامه صحيحا، فلماذا ساد الاستبداد الأصولي طيلة عدة قرون في فرنسا، ولم يسقط إلا بعد انتصار التنوير الفكري واندلاع الثورة الفرنسية؟ وبالتالي، فهناك عوامل أخرى غير المناخ تلعب دورها. وهذا لا يعني التقليل من أهمية البيئة والمناخ في نشوء الحضارات أو سقوطها.

وحده اعترف جان جاك روسو بعظمة النبي، محمد صلى الله عليه وسلم، وقال إنه أحد كبار المشرعين على مدار التاريخ، بالإضافة إلى النبي موسى عليه السلام. ولكن ينبغي القول إن كلام مونتسكيو عن سبب تخلفنا وسبب تقدم أوروبا لا يجرحنا مثل الأطروحة العنصرية التي سادت لاحقا في عصر الاستعمار: أي في القرن التاسع عشر.

وهي الأطروحة التي تقول بأن العرب متخلفون لأنهم عرب، والمسلمون متعصبون لأنهم مسلمون: بمعنى أن التخلف والتعصب موجودان في جوهر العروبة والإسلام!! وهذه الأطروحة لا تزال سائدة حتى اليوم في أوساط اليمين الأوروبي والأميركي المتطرف. وينبغي أن نعترف لكوندوليزا رايس بالفضل لأنها وقفت ضد هذه الأطروحة العنصرية الاستعلائية.

وكان ذلك أثناء المناقشات التي دارت حول العراق ومشكلات المنطقة. فقد قال لها أحدهم إن العرب لا يمكن أن يصبحوا ديمقراطيين، لأنهم همج في أصلهم وجوهرهم ولا يمكن أن يتغيروا أو يتطوروا نحو الأفضل. فهناك شعوب خُلِقت للحضارة وشعوب لم تخلق لها ولا فائدة من إضاعة الوقت مع العرب فهم من عنصر رديء لا يرقى إلى مستوى العنصر الأوروبي الأشقر الجميل...

لقد رأت «رايس» في هذه الأطروحة نيلا غير مباشر منها هي بالذات. وتذكرت مدى الاحتقار الذي تعرضت له في طفولتها في منطقة «ألاباما»، لأنها سوداء ولم يخلقها الله بين البيض الحضاريين! وبالتالي، فلتسقط كل الأطروحات الطائفية والعنصرية، وليعلم الجميع أن كل الشعوب قادرة على صنع الحضارة إذا ما توافرت الشروط المناسبة لذلك، لكن المسألة مسألة وقت ليس إلا.