شيراك «يهزم» غريمه السابق ديستان.. في المكتبات

بعد أن تصارعا سياسيا إلى حد الكره والحسد

TT

لم يبالغ الإعلام الفرنسي في الترويج لكتاب مذكرات الرئيس السابق جاك شيراك «كل خطوة يجب أن تكون هدفا»، الذي باع منه في فترة قياسية 350 ألف نسخة، بما فيها الألف ومائتا وعشرون نسخة التي وقعها على الجمهور الغفير يوم السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في افتتاح معرض كتاب بريف لاقايارد بمنطقة الكوريز العزيزة على قلب الرئيس الفرنسي السابق.

الطريف في أمر رواج كتاب الرئيس شيراك، الذي ما زال أحب شخصية لدى الفرنسيين حسب آخر استطلاعات الرأي إلى جانب الرياضيين زين الدين زيدان ويانيك نوا، تمكنه هذه المرة من حسم معركته السياسية والفكرية والشخصية مع الرئيس جيسكار ديستان الذي فشل فشلا ذريعا أمام خصمه في ميدان لا يقل أهمية عن المعترك السياسي، ونقصد به مجال الكتاب الذي أصبح اليوم سلاحا حادا في أيدي السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال والمال ونجوم المجتمع، لتصفية حسابات قديمة ورد الاعتبار لعزة النفس المداسة. وظهر شيراك أقوى من ديستان منذ الأيام الأولى التي أعلن فيها عن انطلاق الحملة الإشهارية لكتابه المذكور، وهي الحملة التي طغت على المشهد الثقافي بوتيرة أكبر من تلك التي ميزت الأيام التي سبقت صدور كتاب ديستان الذي خيب آمال المراهنين تجاريا على عنوانه المثير الأقرب إلى مفهوم حياة المشاهير أو البيبول كما يقال في اللغة الإعلامية والفنية التي تميز الصحف الشعبية أو الصفراء.

الأميرة ديانا رفيقة الفقيد دودي ابن مالك متجر «هارولدز» الشهير هي التي شكلت مبرر الخبطة التجارية التي فشل في تحقيقها أصحاب دار «دوفالوا واكس أو» الذين راهنوا على عنوان كتاب ديستان المثير «الأميرة والرئيس» من باب الفوز بإقبال محبي ومحبات الأميرة الساحرة التي لقت حتفها في قلب باريس إلى جانب عشيقها العربي، وباهتمام جزء من الأنتلجنسيا اليمينية التي تحفظ الاحترام والود للرئيس ديستان. وخلافا لكل التوقعات فقد مني فريق الدارين بهزيمة نكراء في سوق الكتاب، بعد أن باعوا 25 ألف نسخة فقط من مجمل 100 ألف طبعت و45 ألف نسخة تم توزيعها على أهم وأشهر المكتبات الباريسية، وهكذا بات معيار المراهنة على قصة العلاقة الغرامية التي تكون قد جمعت الأميرة الراحلة بالرئيس المسن أبعد ما يكون عن مفهوم المغامرة المحسوبة.

تعليقا على فشل دار «دوفالوا واكس أو»، قال بيار فيري، نائب دار منشورات «ميشال لافو»، الذي مات من وراء مقود سيارة «فيقا» إلى جانب ألبير كامو يوم الرابع من يناير (كانون الثاني) من عام 1960، إن جمهور الكتب لم يعد يقبل بأي شيء، وأصبح يطالب بالحقائق في أي مجال خاصة إذا تعلق الأمر بشخصيات لعبت دورا مهما وتنفرد بكاريزما نادرة كما هو حال الرئيس شيراك والاستراتيجية الإشهارية والإعلامية لا تعد دائما خيار صائبا. وأضاف فيري أن كتاب الرئيس شيراك لم يجد الصدى الكبير لأنه تعلق بشخصية محبوبة ومثيرة فقط، بل لأن كتابه حافل بمعلومات كان القراء في حاجة إلى معرفتها بدقة وتشويق بعد أن عرف صراعه مع الرئيس ديستان على نطاق إعلامي وسياسي واسع، والنجومية التي يراهن عليها بعض أصحاب دور النشر لا تعني شيئا إذا كانت كتب أصحابها فارغة.

وضرب فيري مثالا برواج كتاب الممثل غير المعروف لورنت ديتش الذي باع 200 ألف نسخة من كتابه «ميترونوم» بعد أن تناول تاريخ باريس بشكل جديد لفت به انتباه الآلاف من القراء.

من الحقائق التي حفل بها كتاب شيراك وكشفت عن عدة أوجه من صراعه الشهير مع ديستان، الإهانات التي كان يوجهها إليه من منطلق غروره وادعائه بالتفوق الفكري وتعاليه، ولا أدل على ذلك من قول شيراك «إنني فهمت بعد مدة قصيرة من عملي معه أنه يضع نفسه في أعلى سلم القيم، وكل الآخرين يقعون في أسفله». جيسكار وزير المالية، الذي أصبح رئيس جمهورية مثل شيراك في وقت لاحق، أدخل منذ البداية في ذهن سكرتير الدولة للموازنة ألا وهو شيراك أن الفرق شاسع بين المنصبين، وحتى يهينه شخصيا فرض عليه الدخول إلى مكتبه من الباب الذي يدخل منه الزوار الظرفيون، ولم يقترح عليه في اجتماع عمل أن يتناول مشروبا ما بعد أن طلب فنجان شاي من المحضر. وحسب شيراك فإن إهانات جيسكار الموجهة إليه تدخل في إطار الحرب النفسية التي خطط لها ديستان بغرض إحباط معنويات عدوه المستقبلي على مستوى الصراع حول الظفر بكرسي الإليزيه.

هذا الصراع الذي تناوله الرئيس شيراك في الجزء الأول من مذكرات كتابه الرائج حتى ساعة كتابة هذه السطور، تمثل في استحالة التواصل بينه كرئيس وزراء وبين ديستان كرئيس جمهورية، وانسداده نهائيا في نهاية الحقبة الرئاسية بسبب عدم قدرة شيراك على تفهم ردود فعله وسيكولوجيته على حد تعبيره، ناهيك عن خلافات مبدئية على أكثر من صعيد سياسي أدت إلى التصادم المباشر في نهاية المطاف بعد أن رفض الرئيس الامتثال إلى تحذير الحيوان السياسي الشرس شيراك الذي ذكر عدوه العاصي بمقولة العرب «لا يجب تجريح الحيوان، إما أن تقتله أو تلاطفه، ولا خيار بين النهجين».

خلافا لديستان المتعجرف والمتعالي بشكل وقح، قال شيراك إن خلافاته مع الرئيس ميتران الذي هزم عدوه القديم كانت حضارية وآيديولوجية في كنف احترام وإعجاب متبادلين، الأمر الذي ضمن تعايشا نموذجيا استمر حتى النهاية. في نظر شيراك فميتران كان كائنا فريدا من نوعه بحكم ذكائه الخارق ودهائه وثقافته الأدبية الواسعة وفضوله الفكري العام والحضاري وحسه الفني وتقاسمهما حبا خاصا حيال الحضارة الآسيوية، وتجذره في الهوية الفرنسية والأوروبية، وعلى الرغم من التباين الآيديولوجي الذي يفصلهما، اعترف شيراك في كتاب مذكراته بأن سلبيات ميتران تتمثل في بعض بقع ظلاميته التاريخية وتعقد شخصيته وتصوره الكلاسيكي لتطوير فرنسا، على حد تعبيره.

ويبقى تشبثهما بتراث وذاكرة الأرض ومُثل الجمهورية حقيقة ضمنت تعايشا سياسيا مثاليا بينهما، ناهيك عن طريقة طرح وعرض أفكاره الأقرب إلى مفهوم الصياغة الفنية، وعليه فلا غرابة أن يصبح ميتران في نظر شيراك فنانا سياسيا نادرا.