فرديناند سيلين عائد رغم أنف المبغضين

رسائله أخيرا عن «لابلياد».. حتى المعادية للسامية

TT

من رأى صور فرديناند سيلين، أحد أكبر روائيي فرنسا في القرن العشرين، قبيل وفاته في الأول من يوليو (تموز) 1961، إلى جانب مارسيل بروست، لا شك في أنه تصوره مشردا أو صعلوكا، ولم يكن يتصور أنه أحد عمالقة الأدب. ولعل من أكبر أخطائه أنه لم يكن يتحرج في كتابة ما يحس به، ولعل كتاباته المتهمة باللاسامية جلبت له كل الويلات؛ من الهرب.. إلى السجن.. إلى حياة البؤس.

ولكن الأمر تغير، الآن، فكتبه تحظى بقراءات كثيرة وترجمات إلى عدد من اللغات، مما يمنح الكاتب قراء جددا وآفاقا جديدة. ولن نفاجأ، قريبا جدا، حين يصبح بالإمكان قراءة كتبه الحارقة التي كانت تعادي السامية ومن بينها «bagatelles pour un massacre وles beaux draps».

وليس غريبا أن نجد الآن كبار الكتاب الفرنسيين يعلنون، من دون مواربة، تتلمذهم وإعجابهم بسيلين، وعلى رأسهم فيليب سوليرز، كما أن الممثل المسرحي والسينمائي الفرنسي فابريس لوشيني قدم قراءات مسرحية للفصول الأولى من رواية «سفر في آخر الليل»، وقد شهدت القراءات حضورا ونجاحا منقطعي النظير.

وها هي «دار غاليمار»، ومن خلال سلسلتها الشهيرة «لابلياد»، تقوم بإخراج «رسائل» سيلين من تقديم أهم المتخصصين الفرنسيين في أدب سيلين؛ هنري غودارد، وجان - بول لويس. وفي التقديم نقرأ: «إن مراسلات سيلين ليست، كما هو شأن فلوبير، نهرا بمسكوب منتظم. لا حاجة لديه أن يحكي نفسه ولا أن يحلل نفسه ولا أن يتدفق. وهو عادة لا يكتب سوى الرسائل القصيرة، كي يقول ما يريد قوله في تلك اللحظة، من دون زيادة. وكي ينهمك في كتابة نص طويل، وبشكل مستمر، يحتاج سيلين إلى مناسبات خاصة، كالمنفى».

ولأن الرسائل تتمتع بكثير من السخرية التي نفتقدها لدى كثيرين من الكتاب، ولأن الرسائل، أيضا، تفضح العلاقات الملتبسة بين الكاتب وناشره، وبين الكاتب والصحافيين، قمنا بترجمة أربع رسائل للقارئ العربي:

رسالة إلى صحيفة «لومانيتيه»

31 أكتوبر (تشرين الأول) 1949.

* «إن ما يفاجئني، سيدي، هو أن السيد موريس توريز، الهارب من العسكرية إلى العدو، في زمن الحرب، لا يوجد في مقبرة العظماء. وإن ما يفاجئني، أيضا، هو أنكم لا تخبرون قراءكم بأن السيد أراغون (لويس) والسيدة تريولي (إلزا) ترجما سنة 1934 روايتي (سفر في آخر الليل) إلى اللغة الروسية، بطلب من الحكومة الروسية. يبدو أنك غير مصمم على قول الحقيقة. تستطيع أيضا أن تخبرهم بأنني انخرطت، متطوعا، في الحربين، وحصلت على ميدالية عسكرية في نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 1914، وخرجت معوقا بنسبة 75%. الأمر يثير الضحك، أليس كلك؟ آه.. بالفعل إن قراءكم ليسوا على اطلاع جيد. أنا لا أرد على الأحدب، ولا أرد على المجهولين، أرد عليك، أنت، السيد المدير. لا أصفك بشيء سوى أنك مخبر سيء».

إلى غاستون غاليمار

الجمعة 19 سبتمبر (أيلول) 1952.

* «تبعا لحديثنا الهاتفي، يبدو لي أن الوقت قد حان للبحث عن (أديب) يهتم بوضع كتاب عن مؤلفاتي الجميلة ومزاياها. السيد جيد (أندريه) وبروست وجيرودو، وآخرون، كانت لهم مئات الكتب المنشورة التي تتحدث عن أساليبهم وبنوتهم. وحتى الكتاب الأجانب، مثل جويس وفولكنر وميللر، وغيرهم. وسيكون الأمر مضحكا ومجحفا بشكل كبير (لكليْنا) أن يتواصل اعتباري «تابعا» غامضا ومثيرا للتقزز لسارتر أو لميللر أو لجونيه أو لباسوس أو لفولكنر، بينما أنا مخترع وخالع باب هذه الغرفة التي تجمدت فيها الرواية حتى صدور رواية (سفر في آخر الليل). يبدو أنك تحس بالخجل من إطْلاع الآخرين عليه وكتابته والهتاف به. فرنسا، أولا، باسم الرب. في هذا البلد الذي لا يوجد فيه من شيء صحيح إلا الطبخ والفنون الجميلة. وفي ما يخص الحوارات، فإنها يمكن أن تغوي النجوم والمحامين، وليس الكتاب، غير أني لست إلا كاتبا، علينا أن لا ننسى الأمر، لم أكتب أبدا مقالا واحدا في حياتي، وهو واقع ننساه (أنا حساس جدا حول هذه النقطة). أنا طبيب، وفضلا عن ذلك، طبيب صغير، هذا كل ما في الأمر. وظيفتان، حصرا. كتبي موجودة، هنا، وقد تعرضت للسرقات (الأدبية)، كما أنها غذت نساخا متبجحين كي يتم إخراجها ويتم الحديث، لإظهار الإعجاب والاعتراف بهذه الطريقة المتقنة (الحيلة) وهذه الموسيقى الخافتة التي يحوم حولها المقلدون من دون أن يفهموها.

المدعو فيتا، صديق السيد مونيي، بدأ دراسة عن سيلين.. ثيوفيل بريانت، وهو شاعر مرهف، يبدو لي الأكثر أهلية. حتى جيرودو وأندريه جيد، وجدا في فراغهما «المطلق» مئات التعليقات، وسيكون الشيطان، لو أنك، في كل علاقاتك، لا تكتشف لي معلقا واحدا. حي على العمل، أيها الناشر.

حين تقول لي إن كتابي (Feerie) لا يباع، أصدقك، باعتدال، أنت تعرف أنك مشهور لأنك لا تعترف أبدا ببيعك كتابا واحدا».

إلى غاستون غاليمار

12 مارس (آذار) 1961.

*ناشري العزيز وصديقي, الوقت يمر ولا أرى شيئا في الأفق، على الرغم من العقد والكلمات المعسولة. طبعة (لابلياد)، التي تخصني، تعطلت، وكي أقول كل شيء، فإن «NRF» (المجلة الفرنسية الجديدة)، من تأجيل لآخر، تهزأ بي. ما الذي تراه؟ لم أعد في عمر الإرجاءات الأبدية، وأنت، كذلك، في ما أعتقد. الله يعرف أنني أقاطع الصحافيين، لكنهم يؤكدون لي أنه من أجل إطلاق هذا الكتاب يجب علي أن أسبق ظهوره ببضع مقالات. ما الذي تراه؟

مؤلفك الوفي جدا ل. ف. سيلين»

إلى إلزا تريولي

29 سبتمبر 1960.

*«اسمحي لي أن أكتب لك لأنني لم أتلق أي رد من أي جهة على سؤال كنت طرحته في باريس وموسكو: ما الذي صارت عليه ترجمتك لرواية «سفر في آخر الليل» إلى الروسية. لا أريد أن أزعجك، لكنك ستصفحين، ربما، عن هذا الفضول الصغير لمؤلف، مطمور تحت كثير من الأحداث وثلاثين سنة، تقريبا، من الصمت.

تقبلي سيدتي أصدق تحياتي»