عمر من الترحال بين السفارة والأدب

أحمد بن علي المبارك شيخ أدباء الأحساء

الشيخ أحمد بن علي المبارك
TT

لم يكن الشيخ أحمد بن علي المبارك (1916 - 2010) الذي شيعته واحة الأحساء شرق السعودية، الأسبوع الماضي عن 94 عاما، سوى رجل عصامي أشبع نهمه في طلب العلم، منفلتا من رحم المستحيل إلى فضاء الحلم والأمل، فاستطاع أن يحقق أمنية الصبا وحلم الكهولة، حيث كانت أمنيته وهو صغير أن يتعلم.. وحين وجد القوالب العلمية في منطقته تضيق بفكره حاول الخروج إلى عالم آخر، وفي ذروة اشتعال الصبا داخله قرر أن يهرب من بين أيدي معلميه في الأحساء حيث ازدهرت علوم الكتاتيب والدورات العلمية في البيوت والمساجد، منفتحا على أفق أوسع، فمارس بطفولية أولى مغامراته التي فتحت له فيما بعد أبواب الأمل.

مثّل الشيخ أحمد المبارك حاضنة للأدب والأدباء في الأحساء، المنطقة التي اشتهرت بالإضافة لنخيلها، بالأدب والشعر، وعلى مدى عشرين عاما كان منزل الراحل مكانا بارزا لاجتماع المثقفين والأدباء خاصة، وتحت رعايته كان الشباب يلتقون برواد الشعر والأدب والتاريخ الزائرين لواحة الأحساء من السعودية وخارجها، ولم يكن المبارك بخيلا في تقديم تجربته على مدى أربعين عاما في الدبلوماسية والترحال للشباب الذين يتحلقون حوله طلبا للتزود بتجاربه وعلمه.

لكن إذا كان الشيخ المبارك، في كهولته وشيخوخته، مثالا للأديب والباحث الكلاسيكي الذي يقتفي أثر التراث القديم، فإن سيرته الأولى كانت على النقيض تماما.

في صباه، وحين كان عمره 15 عاما، هرب من أسرته، وهي أسرة علمية، إلى البحرين، فبعض الجزر في الخليج، فالكويت، ومنها إلى البصرة في العراق حتى استقرّ به المقام قليلا في بغداد.

مثلت تلك مغامرته الأولى، ولكنها كانت في طلب العلم حيث رغب في مواصلة تعليمه في إحدى الحواضر العلمية كالقاهرة وبغداد، ولاعتراض والده على غربته المبكرة وخوفا عليه (من رفاق السوء) كما ذكر هو في كتاباته، سافر سرا وفي رحلة مليئة بروح المغامرة إلى بغداد، حيث انتقل من الأحساء إلى البحرين وتنقل من هناك في عدة جزر في الخليج العربي، ثم اتجه بحرا إلى الكويت ومنها إلى مدينة البصرة فبغداد، ودرس في دار العلوم العربية والدينية، لكن حلمه الصغير ما لبث أن انكسر مبكرا، حين عاوده الحنين إلى نخلات هجر وعيون الأحساء ومرابعها، واستبد به القلق وهو يشعر بتأنيب الخروج عن نظام الأسرة وتقاليدها، فراح يكاتب والده طالبا العفو حتى تمكن من العودة إلى موطنه.

في الأحساء، سرعان ما وجد نفسه يتوق للهجرة والتعلم، فانعقد مجلس عائلي ليقرر له القاهرة وجامع الأزهر مكانا للدراسة، وأخذ والده الشيخ علي بن عبد الرحمن المبارك (المتوفى سنة 1941) زمام المبادرة، فكتب كتابا للملك عبد العزيز في الرياض يلتمس منه ابتعاث ولده أحمد المبارك إلى القاهرة للدراسة في الجامع الأزهر.. وقد تم له ما أراد، حيث انتظم المبارك في الدراسة في الأزهر وتدرج في دراسته الإعدادية والثانوية، ثم التحق بكلية اللغة العربية وحصل منها على ليسانس في اللغة العربية وآدابها، سنة 1949، ثم التحق بجامعة عين شمس وحصل منها على دبلوم في التربية وعلم النفس من معهد التربية العالي عام 1951.

في مصر انفتحت مداركه على رواد الأدب العربي، أمثال أحمد حسن الزيات صاحب مجلة «الرسالة» والأديب علي باكثير، والدكتور زكي مبارك، والأديب عبد القادر المازني، وهناك تعرف على أدباء سعوديين أيضا بينهم طاهر زمخشري، وعبد العزيز أحمد الرفاعي، والشيخ عبد الله بن إدريس، والمؤرخ الشيخ حمد الجاسر. وبعد عودته للمملكة التحق عام 1952 بمديرية المعارف العامة وكانت أول وظيفة له مفتشا عاما للمدارس الابتدائية والثانوية. وبعد عام تم تعيينه معتمدا للمعارف في منطقة جدة ورابغ، وبعد أن تحولت المعارف إلى وزارة أصبح مسمى وظيفته مديرا عاما للتعليم في منطقة جدة.

وفي عام 1954 نقلت خدماته لوزارة الخارجية، وعين فيها مديرا للإدارة الثقافية والصحية. وانتقل عام 1955 للعمل في سفارة السعودية لدى الأردن ثم عمل في سفارة بلاده لدى الكويت. ثم أعيد ليعمل في وزارة الخارجية برتبة مستشار ومدير لإدارة الصحافة والنشر. وفي عام 1962 عمل قنصلا لبلاده في مدينة البصرة بالعراق. كما عين عام 1965 قائما بالأعمال في أكرا عاصمة غانا. وفي عام 1970 عين سفيرا لدى قطر بعد استقلالها فكان أول سفير للسعودية فيها. عاد بعدها لوزارة الخارجية وعين مديرا للإدارة الإسلامية بالوزارة وممثلا للسعودية في منظمة وزراء خارجية الدول الإسلامية. واستمر بها إلى أن انتهت خدماته عام 1994.

في ربى الأحساء أعاد ترتيب مشاغله الأدبية. فكانت «أحدية المبارك» أول وأهم هذه الإنجازات التي حققها، حيث أقام ديوانية في منزله للأدب والثقافة مساء كل أحد، وعمل على استضافة الشخصيات الأدبية والشعرية، ولاقت الأمسية إقبالا جيدا في الأحساء.

تشتهر الأحساء بالإضافة إلى النخل بالشعر والأدب، وكانت أحدية المبارك، أهم صالوناتها الأدبية، لكنها لم تكن الوحيدة، فهي نمت وسط بيئة تحتضن الشعر والأدب، فبالإضافة إلى «أحدية» المبارك، تعقد في الأحساء منتديات أدبية أخرى مثل «ثلاثية» المغلوث التي يقيمها الأخوان عبد الله وخالد الأحمد المغلوث، و«اثنينية» النعيم للأديب محمد بن صالح النعيم، و«سبتية» الموسى التي يقيمها عبد العزيز الموسى، و«ثلاثية» العفالق، لعدنان العفالق، وكذلك منتدى «بوخمسين» الثقافي وغير ذلك.

وفي عام 2003 تم تكريمه حيث كان شخصية العام الثقافية في المهرجان الوطني للتراث والثقافة.

ترك المبارك مجموعة من المؤلفات، هي: رسائل في المودة والعتاب والاعتذار، الأحساء ماضيها وحاضرها، علماء الأحساء ومكانتهم العلمية والأدبية، عبقرية الملك الراحل عبد العزيز، سوانح الفكر.. مقالات في الفكر والحياة والمجتمع، «في بداية الطريق».. كتاب عن رحلته في طلب العلم، «في منتصف الطريق» كتاب يروي حياته العلمية، تأملات في الحياة والناس وهو مجموعة خواطر نشر بعضا منها في الصحف والمجلات، الدولة العثمانية: معطياتها وأسباب سقوطها، بالإضافة إلى ديوان شعر.

في يوم الجمعة 23 أبريل (نيسان) رحل الشيخ أحمد بن علي المبارك، ووري جثمانه يوم السبت 24 أبريل (نيسان) في مقبرة الصالحية في الهفوف.