التنكيل بجثث المعنى

سليم بركات في كتابه الرابع والثلاثين

التعجيل في قروض النثر ـ المؤلف: سليم بركات
TT

«التعجيل في قروض النثر» هو آخر إصدارت الكاتب والشاعر والروائي السوري الكردي المقيم بتخوم غابات سوغوس بالسويد (دار الزمان للطباعة والنشر - 2010) ترتيبه هو الرابع والثلاثون بين كتبه. وهو كشكول يضم مقالات نصف شهرية كان يكتبها في صفحة آفاق بجريدة الحياة قبل نحو عقدين، وتأملات وحوار طويل تم الاكتفاء بالأجوبة منه، فبالجواب يغدو السؤال نافلا.

المقالات بعضها كثيف ثقيل شديد يصيب القارئ بالإعياء من بأس المجازات المتشابكة وجأشها ومقالات أخرى رقيقة وسطى مثل «رصاصة الواحدة فجرا»، التي يروي فيها تعرضه لرصاصة كادت تودي بحياته.

أطول مقالات الكتاب هو أجوبة الكاتب عن رؤيته للكتابة والشعر (90 صفحة من أصل 358 صفحة هي مجمل الكتاب)، فيها سنعرف جانبا من مخبر الكاتب وأسرار التدوين. باب أجوبته مقسم إلى مائة كوة، يفضي فيها بأن قارئه غاضب ومتطلب وحذق، قارئه كما يتخيل؛ كاتب في الأصل أو متعفف عن الكتابة متنازل عنها طوعا. يشبه بركات نفسه بريتشارد الثالث في قولته الشهيرة «مملكتي.. مملكتي مقابل جواد». الجواد عند بركات كلمة، أو (كلمات لا لتوصيف فردوس مفقود، بل لتوصيف وجود مفقود). اللغة ليست وطنا آخر كما يشيع على ألسنة الكتّاب برخص لا مثيل له، اللغة عند بركات وطن أول (قدري قدر لغوي).

بجمل قصيرة يصف قصائده الشهيرة: الجمهرات: قصيدة الطاحن من ظهور الإنسان، الكراكي: عاطفة الشرق، البازيار: غمر من أفق المكان الكردي، طيش الياقوت: جدال مع الموت تشخيصا. شعب الثالثة فجرا من الخميس الثالث: هجاء للبشرية، ترجمة البازلت: تذكير للبشرية بجناية تلفيق كل شيء...

عناوين المجموعات أو الروايات ألوان، العنوان شقاء واختياره مسألة غامضة. أما المصادر الروائية لديه فهي إشكالية، (لا رواية بلا إشكال) فهو لا يكتب عن واقعيين يمكن أن نلتقيهم في الشارع. (الرواية تمرين للتعرف إلى الذات). الكتابة خصم وصورة. في الرواية يستحسن سليم بركات الاستطراد، بشرط ألا يتحول إلى ابتهال وجداني، فهو يميل إلى رأي وسط بين رأيين: أحدهما يسترذل الاستطراد بوصفه تطويلا غير مرغوب، ورأي آخر يرى الاستطراد محمودا يدل على اقتدار المعرفة. الرأي الوسط هو الرأي القائل بخصيصة الثراء في العربية، فكل (تعبير ضروري في الرواية، كل استطراد ضروري. يعترف بأن ثقافته عشوائية، وأنه يحن إلى الحيوانات والنبات والعناصر ومقاماتها وتصانيف الأسماء الدالة على مسمياتها وبعض الطب القديم، ومحاورة القواميس والمعاجم في شؤونها وثرثراتها.

يساعد القارئ في تفهم بعض شخصياته مثل بيكاس (صورة المشهد الكردي كأجوبته الممزقة في بحثه عن إقناع نفسه أولا) وذات الحذاء العسكري وغيرهما، ويتهكم على تصنيفات النقد السائر الذي يحيل اللاتصنيف إلى الفانتازيا.

عوالم الحيوان أثيرة لديه والأسماء التي يخترعها هي أسماؤه والحيوانات هي طباعه، والكتابة عن كائن سيطر عليه أسوة بسحرة الكهوف الأولى. هل الكتابة تعويض يجيب: لعله الوجود في الكتابة، الوجود القائم بالكتابة، الكتابة القائمة بوجودها الذاتي.

بركات مولع بعوالم الكتابات المنسوبة إلى عالم الطفل (أليس في بلاد العجائب، الأمير الصغير، رحلات غليفر، الأخوين غريم..) هي كتب يجمعها البسيط والعميق، أو السهل الممتنع بحسب القول الشائع.

يقول إنه كتب الشعر بعد الرواية ( الشعر كتوم والرواية ثرثرة) ويقرّ بوجود حروب خفية بين المعنى واللغة (المعنى رؤية بصرية، المعنى سيادة المعلوم وترفه وحظوظه واللغة هي البطش)، ينفر بركات من لفظ «اللعب» الروائي أو الشعري، ليس من «لعب»، فالكتابة مجازفة دموية كالفصد.

بركات قليل السفر، الإقامة في المكان شبه جبرية، (لعلها الخشية من أن أغادر المكان فلا أجده)، أما كتبه المخاتلة فلا تصلح للإقامة وطنا لمن يريدونها كذلك، لعلها تصلح منفى خاليا من الجاذبية الأرضية.