نص قلب مفتوح

عبده وازن يحول عمليته الجراحية إلى شعر

غلاف الكتاب
TT

قارئ الإصدار الجديد للشاعر والناقد عبده وازن، «قلب مفتوح» (الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف)، سيجد في عنوانه خير عتبة لدخوله، وقد يوحي له بطريقة تصنيفه. الكتاب نص نثري مفتوح يتنفس من رئتي الشِعر: الحلم والذاكرة. تقنياته سردية، لكن مناخاته مشحونة بضباب البوح الشعري. أسلوبه السردي المسترسل الخافت الحميم يتناسب مع مقتضيات كتابة بوحية مضمونها قلب مشرع على مداه يفيض بالمكنون. هو نص قلب مفتوح يعمل بتقنيات جرح ينزف. ثمة تداعيات سيرة ذاتية وإن تمحورت حول محطات منتخبة منها. ثمة عودة إلى كل ما خلّف ندوبا. وثمة إضاءات على موضوعات بعينها ذات بعد فلسفي وديني وشعري، كان لها الأثر الأكبر في تكوين الشاعر النفسي. السرد فيه يأتينا خافتا لكونه لا يصلنا من حاضر حنجرة الواقع، وإنما غالبا ما يتسلل إلينا من ماض غائر في ذاكرة الشاعر. إنها كتابة من خلف أسراب الضباب.

يأتي هذا الكتاب خلاصة تجربة قاسية عايشها الشاعر بسبب أزمة قلبية ألمّت به منذ مدة. لم تكن الكتابة مواكبة لهذه التجربة بالمعنى الزمني. فهي لم تنجز في السرير مثلا، وإنما جرت لاحقا تلبية لنداء داخلي وكوسيلة علاج اتبعها الشاعر لمداواة نفسه من آثار موت وآلام تجاوزت حدود محنته الأخيرة وبُعْدها الجسدي إلى محطات مفصلية من ماضيه، وإلى جروح لا مرئية، مضرب جذورها الروح. والأغلب أن تجربة مواجهة الموت وضعت الشاعر بغتة في مواجهة عميقة مع حياته، ليعيد تقييم تجربته فيها. وهكذا وجد نفسه غارقا في حال من التأمل تدور بين قطبي الوعي واللاوعي، حيث تحضر الذاكرة والحلم وتتخللهما إشراقات كثيفة.

يكتب الشاعر عن جرح مادي يفجر جروحا مجازية. يكتب عن الجرح بصفته عين الجسد، يعكس آلامه الظاهرة والباطنة. يكتب عن الجرح الجسدي حين «يتروحن» ويفضي إلى جروح الروح النائمة أو المنسية أو المدفونة حية، ويغدو المرآة الحقيقية لها. البداية، جسد فُتح صدره في عملية قلب مفتوح لينفتح لاحقا ما في هذا القلب من جروح لا مرئية. والشاعر نفسه هو من يعيد فتح قلبه (بالمعنى المجازي) ليتحرى ما فيه من آلام وأحلام وذكريات، يسترجعها ويتصالح معها. يقول «الجروح تصالح بين حطام الجسد وضوء الروح المنبث من الداخل». هي ببعدها الرمزي صلة وصل أو علامة مشتركة بين الجسد والروح، وإن اختلف تأثيرها عليهما. الجرح أيضا في كتابة وازن هو ذاكرة الجسد، ودليله على أنه حي. هو علامة موت غلبتها الحياة. هو انتصار للألم على الموت، حيث الألم لا يقتل بل يحيي، وهو في حال الشاعر أحيا ذاكرته والطفل الصغير الراقد فيه الذي «كان دوما يظهر في اللحظات العصيبة» ويقوده إلى «عالم يشع فيه فجر البراءة الأولى، حجر الشمس النقية». ويأخذ الجرح لدى الشاعر بُعده الديني أيضا، ليتبدى في جروح المسيح وما تحمله عذاباته من معنى الخلاص. كذلك يكون مفتاحا للحديث عن الموت بأبعاده الفلسفية في وجدان الشاعر. وهكذا يبدو الجرح لديه كأنه جواز سفر إلى عالم الكينونة.

ويصرح الشاعر بأن فكرة الموت راودته لكنه لم يخف. وقد ساهمت تجربة مواجهة الموت في استنفار طاقاته الروحية وتفجير ذاكرته وإيقاظ أصغر التفاصيل في لا وعيه، مما أدى إلى نوع من الصحوة العميقة جعلته على طرف نقيض من الموت. وهو يقول إن هذه التجربة وحدت بين جسده وروحه. فالجسد المريض كان يقاوم بسلاح روحه، تلك الروح التي سبق أن واجهت الموت (بالمعنى المادي والمجازي) وعايشته على المستوى الوجداني والفلسفي والديني، فكان أن اكتسبت قوة داخلية ضده سمحت للألفة بأن تحل مكان الرهبة في قلب الشاعر. وسنكتشف أن الشاعر كان واجه الموت في طفولته في تجربة أخرى، صبغت بالأعجوبة، وأحالته إلى طفل «منذور»، شفيعه النبي إيليا أو مار الياس الذي بحسب اعتقاد أمه، المرأة «المحظية» الشديدة الورع، هو من أنقذه، نظرا لوقوع الحادثة عشية عيده. هذه الواقعة ستغذي بذرة التدين لدى الطفل، وتعمق لديه الشعور بقيمة عطية الحياة وعظمة عاطيها.

ولعل الطفل الذي استيقظ في الشاعر هو الحياة نفسها التي تولد من جديد بعد كل صراع مع الموت. الحياة ولدت بصورة طفل، ليسكن جسد الشاعر وقد بات حليقا بعد أن أزال الممرض عنه الشَعر في إجراء روتيني يسبق العملية الجراحية. كأن زوال الشعر (رمز الرجولة) يمنح غطاء رمزيا لعودة الطفل وكل ما يصحبه من أحلام وذكريات، ولإعادة اكتشاف الدهشة الأولى أمام الأشياء، والنعمة المباركة في معنى الحياة. وإن كان نمو الشعر لاحقا على جسم الشاعر سيعيد إليه هويته الواقعية والزمنية (ذاكرته)، وسيعيد للجسد صفته كقناع للروح وليس وجها لها، إلا أنه لن يلغي حضور الطفل في وجدان الشاعر. الطفل سيبقى دائم الظهور في صورة «أنا» الشاعر الذي بات يحيا «في عالم حائر بين أن يكون ماضيا أو حاضرا أو محلوما به». ويعتقد الشاعر أن تجربة الاقتراب من الموت هي التي خلقت حال الحيرة لديه لتختلط بعض أزمنته ببعض، وأحلامه بذكرياته «في الليل أحلم كما لو أنني أتذكر، وفي النهار أتذكر كما لو أنني أحلم». خروج الشاعر من تجربة الموت، هو إذن خروج جديد من الرحم، ولهذا كثيرا ما تحضر صورة الأم في وجدانه؛ تحضر بصلاتها الممزوجة بصلاة الطفل، لتكون هي البدء ويكون هو الكلمة.. «إنها صلاة الطفل ممزوجة بصلاة الأم أسمعها تتهادى من البعيد الذي ليس ببعيد». ويأتي حضور الأم في الذاكرة كأحد مفاتيح القوة في تجربة الشاعر. فهذه المرأة «القديسة» كما يصفها، المحدبة بتفان خالص ودون منة على رعاية أطفالها بعد موت الزوج، والتي لم تلتفت يوما إلى مباهج شخصية منفصلة عن أمومتها، هذه المرأة بورعها العميق وحفوها وهشاشتها وسماحتها هي نبع الحياة الدائم بالنسبة إليه، وهي مصدر غذائه الروحي الأول والأساس الذي يستلهمه في محطات حياته الصعبة. فالأم لا تحضر هنا كأم لأطفال فقط، وإنما كأم للألم أيضا، بل للآلام كلها في صورتها المريمية المجسدة في ذهن الشاعر. هي ألم كبير، هي ألم الدنيا الذي يستقوى به على ألم اللحظة.

وسنلاحظ أن كل ما سينبثق من ذاكرة الشاعر من موضوعات (الانتحار، فقدان الأب، الأمومة، الجنس، الليل، الكآبة) سيكون ذا محمولات رمزية مقرونة بنفحات فلسفية ذات صلة وطيدة بفكرة الموت التي هي هاجس الشاعر الأساسي. «الليل» مثلا يحضر بكل أبعاده الميتافيزيقية وما يمكن أن يشكله إدراك أسراره من إدراك مواز لكُنْه الموت ومعانيه الغامضة. فالشاعر مقتنع بأن «الليل قد يكون الجوهر الذي يكمن في قلب الدين أو السر الذي إذا أدركه المرء يدرك معنى الموت الذي هو اليقظة نفسها». ومقتنع أيضا بأن «ليل الإنسان مثلما هو ليل الجحيم أو ليل القبر أو ليل الليل. ولا أذكر من قال (إن الإله من ليل)». ومثلما كان لليل مسار وصيرورة في حياة الشاعر: من ليل الطفل المنطوي على ذاته، إلى ليل المراهق العاشق، إلى ليل الروح القلقة النهمة للمعرفة، إلى ليل الجسد الأسود المضاء بعسل الشهوة، إلى ليل الشاعر المسحور بالغامض، وصولا إلى ليل العين التي أغمضت على جرح والقلب الذي «أشرق ليله» على المجهول، كذلك قد يكون للموت مساره أيضا في تاريخ الشاعر الشخصي، وقد يكون في الإمكان اقتفاء أثره بالعودة بالذاكرة إلى الوراء، بأمل أن يؤدي اتضاح خرائطه إلى نوع من اليقظة. إذن نحن في إطار أن الشاعر يسخّر ذاكرته وحتى خياله لأجل محاولة فهم أعمق لفكرة الموت، بحيث لا يكون الانتصار عليه بالجسد فقط وإنما بالروح أيضا. وإذ صد قلبه المفتوح هجوم الموت، فقد أبقى أبوابه مشرعة لاكتناه سره. وقد بدا كل ما نسجه لنا الشاعر من ذكريات وتأملات شكلت الملامح الرئيسية لسيرة حياته، متناسلا بعضه من بعض وخاضعا لشرط انسيابه الحسي الشعري وليس لعامل التسلسل الزمني. فالكتابة جاءت مطابقة لآليات عمل الذاكرة نفسها - ذاكرة تذكر كل شيء ولا تذكر شيئا - التي تأخذ من التداعي الذهني الملغز بوصلتها وليس من الزمن. فمن القلب المفتوح - مدخل الكتاب برمته - ننفذ إلى عالم الروح. ومن مواجهة الموت ننفذ إلى الذاكرة، ومنها إلى الطفولة ومن الأخيرة إلى الأمومة واليتم والدين والليل، ومن الأخير إلى الجنس والكآبة والانتحار. ومن الانتحار إلى الحرب والحلم والفلسفة وبعض الآداب العالمية، وهكذا دواليك. وبين هذه التيمة أو تلك سيتبدى لنا الشاعر قافزا بين مراحل عمره.

وإنْ كان من عصب محرك لهذا الكتاب/السيرة، فسأقول إنه الدين وليس الموت. يأتي الدين في حياة الشاعر ليملأ معظم فراغات الروح. ولئن يكن مبعث طمأنينة ولا طمأنينة في الوقت عينه، فهو دائما يلقى صداه لدى المؤمنين بالفطرة، الذين «توارثوه دون أن يدروا». ونقرأ «وأظن أن دينا بلا أسرار ليس هو بالدين». هو إذن إيمان الشاعر الغريزي العميق الذي يجعل للدين حضورا طاغيا في نص يتوخى التأمل في الموت بكل أبعاده الماورائية. الدين يعمل على امتصاص القسوة والغموض من فكرة غيبية صرفة. ما نعرفه نوكله إلى شكوكنا المادية، وما نجهله نوكله إلى يقيننا الماورائي. هكذا نحن معظم البشر، نخلق توازننا النفسي بإيجاد معادلات فرضية حول منسوب الفيزيقي والميتافيزيقي في حياتنا. فكرة الموت قد لا تخيف المؤمن والملحد على السواء. وحديث الشاعر عن الحنين إلى «الألوهة الغائبة»، النبع الأول - وهو حديث المؤمن - قد يقابله حديث الملحد عن الحنين إلى العدم. مسألة الدين تتكفل بهواجس الشاعر عن الموت، ولكن ماذا عن الحياة؟ هل تصلح معادلة من نوع: أنا متدين، إذن أنا أحيا؟! نفهم أن دليل الشاعر على الحياة يقيم في مقلب آخر إذ يقول «أنا أحلم، إذن أنا أحيا». هو يحلم إذن هو لم يمض بعد إلى حيث الأجوبة الشافية لا تقتنى بثمن أقل من الفناء.

لم يكن هناك ما يخيف الشاعر قدر فكرة العجز عن الحلم. الليالي التي قضاها في المستشفى بلا أحلام بدت أشبه بالبرزخ الذي يفصل الحياة عن الموت. هي حياة تتخدر وتصبر بالدين وتَعْمَر وتُعَمِّر بالحلم، وليس بأقل منهما تستحق اسمها. وحتى الإنسان نفسه في نظر الشاعر لا يتأنسن إلا لأنه يحلم. يقول «وطالما اعتقدت أن الإنسان سُمي هكذا لأنه نسي ما عُهد إليه عندما أخذه الحلم، فحلمَ وأنس ونسي.. الإنسان هو الكائن الذي لا يأنس إلا لأنه يحلم». ثم «أليس الحلم هو الضوء الذي تلقيه الروح على نفسها في الليل؟» أليس به يعبر الإنسان إلى الضفة الأخرى ليعود ربما حاملا علامة ما؟ «أيكون الموت هو الغرق في الحلم وعدم العودة منه؟».. وكثيرا ما يضفي الشاعر على الحلم صفة الرؤيا التنبؤية، مثلما يقول «الحلم هو منتهى التجلي» أو «الحلم قادر على أن يسبق المشهد حتى ليصبح المشهد رجعا له». أو حين يستخدم عبارة إنجيلية ليصف الأحلام بأنها «علامات الأزمنة»؛ علامات منبثقة من قلب الكون لتخترق ظلامه. ولا يلجأ الشاعر إلى الكتابة إلا في وصفها «الوجه الآخر للحلم». بالكتابة - الحلم يعود الشاعر إلى الحياة. كأن القلب لم يكن ليبرأ تماما إلا بعد أن يكتب. كأن النجاة من الموت لم تكن دليلا كافيا على استمرارية الحياة. كأن الحياة لم تكن لترجع حقيقية إلا بعد أن تطل برأسها من محبرة.