فرانتز فانون «فيلسوف الثورة الجزائرية» وصل إلى أميركا

باراك أوباما بين رفض «حزب الشاي» وتأييد «حزب القهوة»

TT

وصل أخيرا إلى أميركا الثائر الأسود فرانتز فانون، ذلك الثائر الذي دافع عن حق الجزائريين ذات يوم في المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي. لم يعرف الأميركيون هذا الرجل من قبل، ولم يهتموا بمبادئه وأفكاره، لكن وصول أوباما ببشرته السوداء إلى رئاسة الولايات المتحدة يبدو أنه يستجلب ظواهر جديدة، إحداها انبعاث فكر فانون، وانبجاس جماعات تناهض هذا الفكر وتفند مساوئه.

أخيرا وفجأة، بزغ نجم فرانتز فانون في سماء أميركا. ربما لم يسمع به أميركي من قبل. وربما نسيه الناس في دول العالم الثالث، وربما حتى في الجزائر.

هذا هو الفرنسي الأسود الطبيب الثوري الذي هاجر مرتين:

المرة الأولى: قبل تسعين سنة، هاجر إلى فرنسا من جزيرة مارتنيك الفرنسية (في البحر الكاريبي) حيث ولد وتربي.

المرة الثانية: قبل ستين سنة، بعد أن درس الطب النفسي وصار طبيبا نفسيا، وأيضا مثقفا ثوريا ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، هاجر إلى الجزائر، وصار واحدا من فلاسفة الثورة الجزائرية، لكنه توفي قبل أن يرى تحقيق حلمه، قبل سنة من استقلال الجزائر (استقلت سنة 1962).

في الأسبوع الماضي، سارت في شوارع واشنطن مظاهرة فيها لافتات رفعت اسم فانون. وغطت الصحف ندوات اشتركت فيها ابنته ميريل الفرنسية. وزوجها هو ابن منديس فرانس (رئيس وزراء فرنسي سابق). وسأل ناس «من هو فانون؟»، و«لماذا لم نسمع به في الماضي؟»..

لكن، للموضوع خلفية، وله صلة بفوز باراك أوباما كأول رئيس أميركي أسود، وبنقاش من نوع جديد وسط المثقفين الأميركيين عن العلاقة بين البيض والسود. قبل أوباما، كان النقاش قليلا، وكان الموضوع حساسا، وكان السود غاضبين، وكان البيض صامتين.

بعد أن صار أوباما رئيسا، ظهر مثقفون ومنظرون يمكن اعتبارهم انعكاسا لحركة متطرفة، صغيرة لكنها صاخبة، وهي «تي بارتي» (حزب الشاي). يشير ذلك إلى حركة بهذا الاسم قبل أكثر من ثلاثمائة سنة، خلال سنوات مقاومة الأميركيين للاستعمار البريطاني. في ذلك الوقت، تمرد الأميركيون على دفع ضرائب للحاكم البريطاني، ورموا أكياس الشاي في البحر، في ميناء بوسطن (ولاية ماساشوستس)، لأن الحاكم البريطاني أمرهم بدفع ضرائب عليها. لهذا، يعكس هؤلاء المثقفون خطة «حزب الشاي» لمعارضة خطة أوباما لزيادة الضرائب على الأغنياء. غير أن بعضهم يبدون كأنهم عنصريون، يقاومون أي شيء له صلة بأوباما.

وفي ظل الحرية الأميركية، وحسب تقليدها العريق بظهور رأي ثم رأي معارض، ظهر مثقفون يعكسون أفكار حركة معارضة: «كوفي بارتي» (حزب القهوة). ليس للاسم معنى فكري غير معارضة «حزب الشاي». لكن، تعكس الحركة تمرد مثقفين ليبراليين على المثقفين المحافظين الذين يبدون معادين، علنا أو سرا، لرئيس أميركا الأسود.

ومؤخرا، ظهر مثقفون أميركيون يؤيدون أوباما، لكنهم جميعا من السود. وبدأوا يعيدون الحياة إلى أفكار حزب «بلاك بانثرز» (الفهود السوداء). قبل ستين سنة، خلال مظاهرات الحقوق المدنية للسود، كان هذا حزبا أسود، صغيرا ومتطرفا. وكان على نقيض أفكار مارتن لوثر كينغ، القس الأسود المعتدل الذي قاد حركة الحقوق المدنية على أسس سلمية، ومن دون عنف، ومع خلفية دينية.

هؤلاء هم المثقفون السود الذين يريدون أن يكون فرانتز فانون الثوري رائدا لهم. لكن، يعارض كثير من المثقفين الأميركيين (كل البيض وبعض السود) هذه الأفكار. وليست هذه أول مرة تثير فيها أفكار فانون الثورية اختلافات. فقد أثارتها عندما كان في فرنسا، ثم عندما كان في الجزائر. وهي أفكار ثورية ضد شيئين:

أولا: ضد الفكر الاستعماري الغربي.

ثانيا: ضد العنصرية الغربية، خاصة نحو السود.

في جزيرة «مارتنيك» (في البحر الكاريبي) حيث ولد وتربي، واجه الأمرين معا: الاستعمار الفرنسي، والعنصرية الفرنسية. وعندما سافر إلى فرنسا لدخول مدرسة ثانوية خاصة (كان والده الأسود غنيا)، واجه العنصرية الفرنسية في كل مكان وكل زمان. ولم يغفر له الفرنسيون أنه تطوع وانضم إلى القوات الفرنسية التي حاربت ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. عندما انهزمت ألمانيا، وقبيل أن تصل القوات الفرنسية إلى برلين، استغنى الفرنسيون عن الجنود السود (تحت شعار «تبييض النصر»)، وأعادوهم إلى باريس، وسرحوهم.

خلال السنوات التالية، تتلمذ فانون على أيدي اثنين من مثقفي فكرة «نيغريتيود» (الزنجية) الفرنسيين السود:

الأول: ليوبولد سنغور (من مستعمرة السنغال الفرنسية، وصار رئيسها عندما نالت استقلالها سنة 1960).

الثاني: إيمي سيزار (أيضا من جزيرة مارتنيك الفرنسية، وصار زعيما سياسيا، لكن، حتى اليوم، ترفض فرنسا منح الجزيرة الاستقلال).

كان الأستاذان من غير دعاة العنف. لكن، صار تلميذهما ثوريا. وكتب «يستعمروننا لأنهم أقوى منا. ولهذا، لا يفهمون سوى لغة العنف». ولهذا، أيد ثورة الجزائر المسلحة أكثر من تأييده مظاهرات الاستقلال السلمية في السنغال، وفي جزر البحر الكاريبي.

وكان الأستاذان يركزان على اللون الأسود كأساس للهوية. لكن، دعا التلميذ إلى وضع اعتبار للألوان الأخرى، مثل اللون الأسمر (لون الشعوب العربية التي كانت فرنسا تستعمرها). وكتب «ليس اللون هو أساس الهوية، لكن الضمير. والضمير المضطهد والمظلوم والمحبط لا يعرف اللون». ونادى: «يا شعوب المستعمرات الفرنسية، لونكم واحد. لونكم هو ضميركم المضطهد».

كتب فانون كتابين مهمين:

الأول: عندما كان في فرنسا، عن العنصرية الفرنسية، خاصة ضد السود.

الثاني: عندما كان في الجزائر، عن الاستعمار الفرنسي، على كل الألوان. في فرنسا، كتب كتاب «بلاك سكن.. هوايت ماسك» (بشرة سوداء.. قناع أبيض).

ويتخلص الكتاب في الثورة على الثقافة الفرنسية. وسأل «كيف أثور ضد الاستعمار الفرنسي وأنا أتكلم الفرنسية، وأنا أفكر بالفرنسية، وأنا أكتب بالفرنسية؟» وقال «كلما أنطق كلمة، أعبر عن ثقافة، وعن حضارة. ما هي ثقافتي وما هي حضارتي؟»، ووضع نظرية قال فيها إن أساس الهوية هو الضمير، وأساس الضمير هو الثقافة، وأساس الثقافة هو اللغة. وإن شعوب المستعمرات الفرنسية تعاني من «استعمار اللغة».

وهو الطبيب النفسي، شرح كيف أن اضطهاد البيض للسود سبب للسود «إنفيريوريتي كومبلكس» (عقدة نقص) شبه دائمة، وذلك من ناحيتين:

أولا: كتب «يحس الأسود الذي يعيش في بلد الأبيض بأن الأبيض يحتقره. ويلازمه هذا الإحساس في كل مكان وكل زمان. حتى إذا لم يحتقره الأبيض، من يستطيع أن يقنع الأسود بذلك؟».

ثانيا: كتب «يريد الأسود أن يتمرد على هذا الوضع. لكن، كيف وهو يعيش في بلد الأبيض، ويلبس مثله، ويأكل مثله، ويشرب مثله؟».

وركز فانون على «الأسود المثقف الذي عقله في مكان وقلبه في مكان». وكتب أول جملة في الكتاب في صورة سؤال «ماذا يريد الرجل الأسود؟»، وأجاب عن السؤال «من دون إساءة لإخواني السود، ليس الأسود رجلا ما دام من دون ثقافته وضميره. يظل مخنثا، وعقيما، وعاريا. يظل ينتظر الثورة لتكسيه، وتعطيه رجولته الحقيقية».

لكن، عكس سنغور وسيزار، لا يركز فانون على اللون الأسود. كتب «الأسود أسود لأنه وضع نفسه في حفرة سوداء، وعليه أن يخرج منها. وليس لأنه ليس أبيض. ليس البياض بياض اللون، لكنه بياض الضمير. الحل هو أن يتحرر الأسود من سواده، ويتحرر الأبيض من بياضه».

وقال إن «إنفيريوريتي كومبلكس» (عقدة النقص) عند الأسود لها سببان:

الأول: اقتصادي لأنه أفقر وأضعف.

الثاني: نفسي، في عقله، أو في لون بشرته.

وإن الحل هو «ضمير نقي وشريف وشفاف». وأضاف «إذا تحقق ذلك، تكون الألوان مجرد ألوان».

في الحقيقة، كان موضوع الكتاب أطروحة دكتوراه كتبها، وعنوانها «عدم غربة الرجل الأسود» (أي إذا وجد ضميره وهويته). لكن، رفضت جامعة ليون الفرنسية قبول الأطروحة. وترك الجامعة، ونشر الكتاب في دار نشر مغمورة، وترك فرنسا إلى الجزائر، وهناك كتب كتابه الثاني «ريتشريد أوف إيرث» (بؤساء الأرض).

وإذا كان الكتاب الأول عن اضطهاد البيض للسود (خاصة في فرنسا)، كان الكتاب الثاني عن اضطهاد البيض للأسود والأسمر والأصفر (في كل الأرض).

في الجزائر، فتح فانون عيادة أمراض نفسية، وواصل كتابة أفكاره الثورية، وجمع بين الطب النفسي والاستعمار. وقال إن الكبت (أي كبت) يؤثر على نفسية الإنسان (أي إنسان)، وإن شعوب العالم الثالث تعاني أمراضا نفسية كثيرة بسبب الكبت (الأجنبي والمحلي). وبصرف النظر إذا كان الشخص رجلا أو امرأة، غنيا أو فقيرا، عاديا أو مسؤولا، أسود أو أسمر.

وكتب «تشتكى أغلبية الجزائريين الذين يزورون عيادتي من مرض نفسي يسمونه الإحباط. وأنا أقول لهم إن أسباب المرض هي: الكبت، والقهر، والاحتقار».

وطبعا، تأثر فانون بلون الجزائريين الأسمر. وتأثر بلون المختلطين (نصف سود ونصف بيض) في جزيرته، جزيرة «مارتنيك»، وغيرها من جزر البحر الكاريبي التي استعمرها فرنسيون وبريطانيون وهولنديون، وأنجبوا من نسائها السود.

ربما لهذا السبب، كان إدوارد سعيد، وهو أستاذ جامعي أميركي فلسطيني (توفي سنة 2002)، من المعجبين بفانون. أعجبته نظريته التي جمعت السود والسمر، وأعجبه قوله إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وأعجبه نضاله مع الشعب الجزائري. وأعجبه قوله إن الاستعمار الغربي ليس استعمار أرض وشعب، لكنه استعمار ثقافي وفكري.

قبل وفاته بسنوات قليلة، كتب إدوارد سعيد بحثا أكاديميا بعنوان: «فانون المهاجر»، أشار فيه إلى هجرة فانون من البحر الكاريبي إلى فرنسا، ثم إلى الجزائر. وقال إنه ربما لو بقي حيا، لهاجر إلى فلسطين، للاشتراك في الثورة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

في الأسبوع الماضي، يبدو أن فانون هاجر إلى الولايات المتحدة. وهو ليس غريبا عنها.

بعد سنوات القتال مع الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي (كان يمول المجاهدين بالسلاح، ويعالجهم، ويكتب في صحيفة «المجاهد» الجزائرية) جاء فانون إلى أميركا، للعلاج من سرطان الدم (قبل ذلك، وهو الاشتراكي الثوري، ذهب أولا إلى روسيا للعلاج). جاء إلى أميركا تحت اسم سري «إبراهيم فانون». وتوفي فيها، لكن دفن جثمانه، حسب وصيته، في الجزائر، في مقبرة الشهداء في عين الكرمة.

السؤال الآن: كيف سينظر المثقفون الأميركيون، بيضا وسودا، إلى فانون، وهم لم يكونوا سمعوا به؟ هل سيكون فقط رائدا للسود، أم لكل الأميركيين؟

إذا كان فانون حيا، وجاء إلى أميركا، وتحدث في مظاهرات الأسبوع الماضي، ربما كان سيقول شيئا لكل واحد:

كان سيقول للسود أن يبحثوا عن هوية غير لونهم، وللبيض ألا يستعلوا على غيرهم من الألوان، ولأوباما أن يوقف ظلم الإدارات الأميركية على الشعوب السوداء والسمراء والصفراء.