المشهد الثقافي الليبي.. وعي الفرد ووعي الجماعة

رصدت ملامحه وتحولاته مجلة «عراجين» في عدد خاص

غلاف الكتاب
TT

خصصت مجلة «عراجين» الأدبية الليبية عددها الجديد الثامن الصادر هذه الأيام لمناقشة المشهد الثقافي الليبي تحت عنوان «الثقافة الليبية أفق آخر - رؤية استشرافية».

تناول العدد آفاق الثقافة في ليبيا من منظور الوعي الفردي والجمعي، ورصد علاقتها الجدلية بالسياسة والإعلام وأنماط التنمية في المجتمع، كما رصد تجلياتها في إطار الموروث الشعبي، وحركة المجتمع المدني، ومشكلات المسرح والسينما وشتى دروب الإبداع من شعر وقصة ورواية وفن تشكيلي. وسلط الضوء على واقع الفلسفة والتفكير النقدي في إطار المشهد الثقافي. استهل الناقد إدريس المسماري رئيس تحرير المجلة العدد بافتتاحية موجزة استعرض فيها أثر التحولات السياسية والاجتماعية في بنية الخطاب الثقافي الليبي والعثرات التي واجهها منذ قيام ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 وعلاقة الهم الثقافي بشعارات الحرية والوحدة والاشتراكية التي رفعتها، وأسهمت في تكوين ملامح المشهد الليبي، مشيرا إلى أن هذه الشعارات - على الرغم من نبالة المقصد - ظلت تراوح لفترات طويلة في المسافة بين الحلم والواقع، في عملية تحولات ومخاضات عسيرة، وهو ما انعكس بالسلب على حركة الثقافة، فمالت إلى الانعزال والفردية، فيما تركت التحولات الثورية جراحا غائرة في النفوس، دفعت البعض إلى الهروب من الوطن أحيانا.

ومع فترة الانتقال من الثورة إلى مرحلة الدولة المستقرة القائمة على القانون والمؤسسات - حسبما يقول المسماري - وقف المجتمع على أعتاب حياة جديدة، كان لها أثرها الإيجابي على الثقافة، فأصبحت تثق بنفسها وتنظر إلى المستقبل عبر طموح يشمل الوطن بشكل كلي، مفتوح على شتى الأطياف الوطنية والاجتماعية، ويعتد بالخصوصية المحلية كمقومات أساسية لتكوين العقل والوجدان.

وفي دراسة ضافية بعنوان «تحليل الثقافة والوعي الفردي والجمعي وتبيان العلاقة بينهما» يحلل الباحث نور الدين الماقني عيوب النظريات الثقافية السائدة، وانعكاسها على المشهد الثقافي الليبي، وذلك بغياب الرؤية الشاملة، وتجاهل المجتمع في كليته والتركيز على جزئياته وشظاياه المتناثرة، والانغماس في الصراع كتعويض عن عدم فهمه وتحليله ودراسته. ويؤكد الماقني أن ثقافة الفرد لا يمكن أن تنفصل عن ثقافة الفئة أو الطبقة، ومن ثم ثقافة المجتمع ككل، لافتا إلى أن إعادة إنتاج النخب لذاتها، لو توافرت لها الشروط الموضوعية الطبيعية، ستمكنها من تحقيق تنمية تستهدف تحويل العلم إلى ثقافة.

ويرى الشاعر محمد الفقيه صالح في بحثه «جدلية الثقافي والسياسي» أن العلاقة بينهما تتأسس على التكامل والتكاتف والتضافر، ما دامت السلطة السياسية تنفتح بحيوية وحيادية على كل مكونات المجتمع، بينما تنقلب هذه العلاقة إلى تدافع وصراع إذا ما عمد السياسي إلى تجاوز تلك المكونات أو تجاهلها أو مصادرتها. ويطرح صالح «التوازن» كصيغة للعلاقة المثلى بين السياسي والثقافي وحتى ينصرف كل منهما لأداء دوره ووظيفته بكامل إمكانياته وفي فضاء حر. ويتخذ الباحث من نقد الأوضاع العامة مقياسا لتبيان طبيعة الوجود الثقافي ما بين العهد الملكي الفائت، وليبيا في ثوبها الشعبوي الراهن، مشيرا إلى أنه خلال العهدين تعرضت الثقافة الناقدة للضغوط والمصادرة، بل واجهت قمعا أشرس وأشد إبان العهد التالي. ويتساءل صالح: «هل التوجه الذي غلب على الثقافة الليبية منذ الفترة الاستعمارية حتى اليوم نحو التاريخ والتراث بقصد التأصيل والتأسيس كان استجابة لحاجة ملحة طرحها الواقع، أم أن هذا التوجه يعكس في حقيقة الأمر حالة الضعف والهشاشة التي تنطوي عليها البنية الثقافية الليبية». مشيرا إلى أن حالة الضعف تدفع بالثقافي إلى التحصن بالتاريخ والتراث في مواجهة رياح الطمس والإلغاء والمنع والمصادرة. ويخلص صالح إلى أنه يجب على الثقافة الليبية الراهنة أن تغادر هاجسها التأصيلي كآلية دفاع مستنسخة عن الذات، وأن تتسلح بمبادرات جديدة وجريئة أكثر تغلغلا في الواقع الحي واشتباكا مع ثقافة العصر.

وتحت عنوان «تنمية الثقافة وثقافة التنمية» يناقش الأديب سالم العوكلي عزلة العمل الثقافي وتهميشه، وعدم الاعتداد بمكوناته وخصوصياته، خصوصا علاقته بالمكان، والنظر إليه بكل نسبي، في إطار خطط تنمية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. ويرى العوكلي أن تنمية العمل الثقافي لا تنفصل عن استثمار التعليم وغرس قيم الوطنية والانتماء وتحفيز روح المبادرة والخيال لدى الطلبة والتلاميذ، وكذلك سن قوانين تضمن حرية واستقلالية الصحافة ووسائل الإعلام، لتساهم بحيوية في ترسيخ الوعي بثقافة التنمية. وفي علاقة التنمية الثقافية بالمدينة يشدد العوكلي على ضرورة أن لا يكون التخطيط للمراكز الحضرية أو الريفية على حساب جمالياتها، وهو ما يشوه إحساس المجتمع بالجمال والفن.

وتخلص الدكتورة أم العز الفارسي في بحثها حول «الإعلام والتنمية الثقافية» إلى المطالبة بتحرير المشهد الإعلامي من تراكمات الماضي، وأن يتسلح بسند ثقافي وفكري جاد ورصين، حتى يمكنه أن يسهم بفعالية في الحركة الثقافية. وتدعو الفارسي إلى عدم خلط الأوراق بين الثقافي والإعلامي، وتنمية المشترك بينهما في إطار من التخصصات المحددة.

ويتناول الملف دور الموروث الشعبي وآليات توثيقه والتعريف به كمقوم للتنمية الثقافية في ذاكرة الليبيين، كما يستعرض الطفولة كتربة ثقافية خصبة لاكتساب المهارات واكتشاف المعرفة. ويناقش أيضا دور مؤسسات المجتمع المدني في وضع تصورات لمستقبل الثقافة والمجتمع، كما يستعرض مشكلات المسرح الليبي، وواقع الفلسفة والتفكير النقدي، وسبل تفعيلهما لدفع العمل الثقافي نحو آفاق أرحب وأعمق.