استبدلت حروفا رسمتها لنفسي بأحرف اللغة العربية لأحمي أسراري

TT

الواقع أن رحلتي المهنية والحياتية، كانت بالدرجة الأولى مع الرسم. لكن أفكر أحيانا أنه لعل الرسم هو كتابة أخرى، أو ربما أن الكتابة هي رسم بأسلوب آخر. ولعل الاثنين يلتقيان في برزخ كما يلتقي الإنسان بظله.

منذ شهور مضت، صدر أول كتاب لي بعنوان «الهجر». وهو نوع من السيرة المكتوبة ولكنها أيضا مشغولة، إلى جانب الكتابة، برسوم وصور فوتوغرافية ووثائق وهوامش ووقائع تاريخية ووقائع غير تاريخية، وطيور وسحال وورود وخناجر وحكايات وشخصيات وغزلان. خيوط كثيرة تتشابك، تتعارض وتتلاقى وتتحاب لتغزل نسيجا واحدا من الكتابة بأساليب عدة.

في سنين طفولتي، كان بيتنا يفيض بساكنيه. لذلك، كانت مساحة الخصوصية فيه شحيحة، وكأني كنت رغيف خبز، حجمه محدود يدور على الجميع، من أراد أن يستولي على أكثر من نصيبه فيه خبزا أو مساحة أو حرية، فعليه إذن أن يقتنصها من نصيب آخر، يكون ظاهريا على الأقلأاضعف منه أو أسهى. الأضعف هنا، وبالتراضي، كان أخواتي البنات وأنا، لكننا نحن «الضعيفات» ولله في خلقه شؤون، كنا دائما نستنبط طرقا وحيلا نلتف فيها في استبسال من أجل حماية وحراسة مساحتنا وأدراجنا وصناديق أسرارنا وكل ما نعتبره قدس أقداسنا.

في سنوات مراهقتي الأولى، عندما كنت اقترب من بلوغ الرابعة عشر ربيعا، كان من البديهي والطبيعي أن يتملكني إحساس عارم وغامر وملزم بأن كل ما أفكر فيه وأعيشه وأحسه هو من الخطورة والأهمية بحيث يتحتم علي تسجيله بدقة.

رحت أسجل يومياتي وكأنها أحداث جسام وأمور جليلة لا يمكن السكوت عنها أو إغفالها. كان علي أيضا أن أجد طريقة أحمي بها هذه الأسرار المصيرية من فضول وإياد وأعين، خاصة أعين إخوتي الذكور. وبما أنه كما يقال الحاجة هي أم الاختراع، فقد استنبطت لنفسي طريقة خاصة بالكتابة، إذ استبدلت حروفا رسمتها لنفسي برسوم أحرف اللغة العربية. وكأنني بذلك أكتب بشفرة خاصة يستعصي فكها على أي مغير. كنت أسجل هذه اليوميات بجدية بالغة دؤوب، كما كان سكان المايا يسجلون في أوراق مقدسة حركات أفلاك النجوم في السماء. وكنت أحتفظ بطلاسمي هذه في دفتر مدرسي عادي، شكله الخارجي البريء لا يشي بخطورة ما في داخله. الغلاف كان أخضر اللون، ولا يحمل عنوانا. نجحت في هذا التمويه وكنت بعدها أنام قريرة العين وبي ثقة تامة بأن أسراري وطلاسمي في حرز حريز وأمان تام.

أواخر أعوام مراهقتي وأثناء سنواتي الجامعية، بقيت تلك الرغبة في قول أفكاري وأحاسيسي تستحوذ علي بإلحاح. فرحت أكتبها في مجلة الجامعة التي كنت أنتسب إليها آنذاك، ولكن باللغة الإنجليزية، كأني بذلك أستبدل طلاسم بطلاسم وشفرة بشفرة. فتاة تقف في ظل فتاة، خلف خطوط وخلف أبواب مواربة، نصفها في الضوء ونصفها في العتم. فتاة تقف في ظلها ترنو إلى الضوء وكأن الظلال لها لون الأسرار فإذا زال الظل استباح السر.

أذكر وقتها أستاذ مادة الثقافة العامة. أذكر ابتسامته، نصفها شماتة ونصفها جذل، وهو يصف رواية توماس مان الشهيرة «الجبل السحري» قال الأستاذ إن مان الألماني قد كتب الرواية الضخمة بلغته الأم، أي الألمانية، ما عدا الفقرات التي فيها بوح حميم أو ارتباك داخلي، فقد كتبها باللغة الفرنسية، كأنه يداوي خجله وارتباكه خلف لغة أخرى. بطل الرواية عندما أراد أن يعبر لمحبوبته عن مشاعره قالها بالفرنسية وكأنه رجل آخر يختبئ خلف رجل آخر يقف متخفيا بين الظل والظل.

استغرقني كتاب «الهجر»، نحو ثلاث سنوات. كنت في ليال كثيرة خلالها، أستيقظ فزعة في عتمة الليل وقد بللني العرق ورأسي يملؤه الطنين. الكلمات كانت تحتشد في رأسي كالسهام المسنونة، الحارقة، خاطفة ولاهثة تتشكل وتتكور داخل عظام جمجمتي كأنها قبضات أياد بيضاء صغيرة تصر وتواظب على قرع الباب من الداخل. كأنها تطلب أن تخرج من العتم كي تقف في الظل، تستكين وتنام.

* رسامة وكاتبة لبنانية