سجالات الهوية تلاحق المؤلف بعد 30 عاما

إياد مدني ينشر أوراقه في «سن زرافة»

غلاف الكتاب
TT

في بداية كتابه الجديد، «سن زرافة»، يتساءل وزير الثقافة والإعلام السعودي السابق، إياد أمين مدني: «لماذا يعيد الكاتب نشر مقالات وأوراق كتبها قبل سنوات طويلة مضت»؟

ليجيب بأن جزءا من السبب يعود «في اعتداد كل كاتب بذاته وغروره بأن فيما يكتبه قيمة باقية»، لكنه يقرر أيضا أن ثمة «فائدة بالفعل تتعدى (أنا) الكاتب الممتدة فما ينشر خلال فترة زمنية ما، يعبر عما اتسمت به من شؤون وشجون، وبرق فيها من أحلام، وترسخ خلالها كواقع، وارتفع أثناءها من سجال، وفي ذلك معين للباحث والمؤرخ الاجتماعي المعني بها» (ص5).

تناول المؤلف (إياد مدني) في كتابه جملة من الأفكار والمناقشات التي دأب في شبابه على إثارتها، ثم أعاد نشرها اليوم بعد أن ترك مقعد الوزارة الأكثر جدلا وهي الثقافة والإعلام، وميزة هذه الأفكار أنها كتبت قبل أكثر من ثلاثين عاما من اليوم، وهي تناقش أفكارا وسجالات عصرها، برؤية المثقف الذي ينطلق من مفهوم آيديولوجي لا يدعي الحياد إزاء قضايا ظل يقيمها برؤية فكرية وبأحكام مسبقة.

المؤلف، الذي وُصف في السنوات الأخيرة من قبل خصومه بأنه ليبرالي – تغريبي، أظهر في كتابه حماسا كبيرا في الدفاع عن النموذج الإسلامي ومنافحة الأفكار التغريبية الوافدة، والدخول في سجالات حول قضايا التجديد والأصالة وحماية الهوية وتعزيز الثقة بالتجربة المحلية وكبح جماح الانسياق خلف الأفكار الوافدة، بقدر لا يقل حماسا ونشاطا عما يظهره الرموز التي هاجمته.

يتعمد المؤلف تقسيم الموضوعات ذات الخصوصية الثقافية وتصنيفها لتلتقي في رسم الصورة الفكرية التي يستهدفها. سجالات الماضي، كما في الوقت الراهن، اعتمدت على قدر وافٍ من «تعرية» الخصم الثقافي من مبررات وجوده، وجعله مجرد (متأثر) بالغير ومنصاع لنسقيته الثقافية، تماما مثلما ابتلي المؤلف شخصيا ومعه جيل من الإداريين والمثقفين السعوديين بحمى التصنيفات الجاهزة التي تجردهم من حقهم في التعبير والدفاع عن مشروعهم الفكري، فضلا عن كونه معبرا عن تجربة محلية وليس استجابة لتأثيرات الخارج.

قسم مدني كتابه إلى قسمين، في أوله يتحدث عن سجال الهوية ويتناول الكيفية التي ينظر من خلالها المجتمع إلى هويته، وكيف يراها ويعرفها ويمارسها، كما يتحدث عن المحددات التي تؤطر حركة المجتمع في السعودية، وعن الدوائر العربية والإسلامية التي تتأثر في الحراك المجتمعي في السعودية.

أما القسم الثاني، فيضم الأوراق والتعقيبات التي تطمح إلى تعريف معالم الوصول إلى فكر مستقل معاصر، وتبدأ الأوراق بسؤال «النفط» وتنتهي بسؤال الـ«هنا».

في أوراق إياد مدني، الرجل الذي خبر عبر زمن طويل صناعة القصة، يجعل بداية كتابه قصة إنسانية من تراث المدينة المنورة التي عاش فيها، والتي جعلها مدخلا لكتابه، وعنوانا لها، حيث يروي قصة جارية كانت تعيش في فترة العبيد والجواري في بيت سيدها، وتتعرض للتمييز والقهر الطبقي، كما تتعرض للقسوة والاعتداء والضرب حتى أصيب سنها ونزف الدم من فمها.

اشتمل الكتاب أيضا على مجموعة من المقالات التي سبق أن نشرها، بينها مقال بعنوان «خيمة مايكل جاكسون»، تناول فيه سيرة جيل من التكنوقراط السعوديين الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة، في فترة الستينات، ومخاضات الصراع الفكري الذي واجهوه. (ص 15).

واشتمل كذلك على مقال بعنوان (اعترافات كاتب) يروي فيها قصة مع زملائه محمد عمر عامودي، ورضا لاري، وعلي حسون، ولقائهم بأمير المدينة السابق الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز الذي حاول توجيه حماسهم نحو المغامرة والاستكشاف فحثهم على زيارة منطقة مهد الذهب. (ص 23)، وثلاثة مقالات أخرى هي «مفهوم القبيلة»، و«مجتمع أخبيلي» و«هل التنمية هوية؟».

وتناول وزير الثقافة السابق موضوع الثقافة في السعودية، التي يقول إنها «جزء من الحضارة الإسلامية والعربية، وإنها تعكس مميزات فنية وفكرية معينة، تسير جنبا إلى جنب مع التغيرات التقنية والاقتصادية».

وهو يدافع عن خطط الحكومة في مجال التنمية الثقافية، إذ يقول في الصفحة 74 إن «الأسس الاستراتيجية لخطة التنمية الرابعة أولت أهمية كبرى لنشر الثقافة عن طريق تشجيع الإبداع الأدبي والحفاظ على الأماكن الأثرية وإنشاء المتاحف وعدد من المكتبات، وإن هناك تحديا خاصا يواجه كل رجال الثقافة والمسؤولين عن الأنشطة الثقافية والفكرية لأخذ الدور الريادي والقيادي والسعي بجد لإيجاد نهضة ثقافية لإثراء الحياة الفكرية والفنية في البلاد».

ويستنتج أن هناك بنية اجتماعية تتأثر بالبعد الاجتماعي لأهداف التنمية الشاملة في المملكة، وهناك «ثقافة» على مستوياتها المختلفة يعمل البعد الاجتماعي على تكريسها.

وفي الفصل الثاني من القسم الأول تحدث عما يسميه بالمحددات، وفيها يتناول ثلاثة عناوين بارزة تهتم بتشخيص دور رجال الدين في حركة التجديد الفكري والفقهي، كما تطرق إلى مفهوم الاجتهاد، ومعنى الاتباع، وفي هذا الصدد يقرر المؤلف أن هناك من يفهم «الاتباع» على النحو الجامد، وهو بذلك مخطئ لأن «الحقيقة الكاملة للدين لا يملكها جيل أو بيئة، وأن التطبيق المثالي للدين ليس مقصورا على صورة واحدة لا يتعداها. وأنه لا حرج على جيل معين في بيئة معينة أن لا يحيط بكل الحق ولا يصادف كل الصواب لأن الحكمة الإلهية في قمتها الشامخة تترك مجالا لصعود اللاحقين كما تَسَلقَ السابقون.. وكان لا بد أن يفسح الإسلام في داخله المجال للتطور الإنساني» (ص 87).

ثم يناقش في نهاية الفصل الجدل القديم – الجديد عن ثنائية الأصالة والمعاصرة، ليلاحظ أن «العلاقة بين الأصالة والمعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية النامية – والمملكة جزء منها – علاقة مركبة شديدة التعقيد.. فالعالم العربي يمر بمرحلة تاريخية حضارية جديدة تتميز بالتفاعل المعقد بين عالم الحضارة العربية الإسلامية وعالم الحضارة الغربية المتفوقة، ويزيد من تعقيدها أن واقع العالم العربي وهو يمر بهذه المرحلة لا يتساوى مع واقعه أيام انبثق نور الإسلام وارتفعت راياته، ولا يتشابه مع أوروبا النهضة: أوروبا القرن السادس عشر» (ص 95). حمل الفصل الثالث عنوان «العرب والمسلمون»، وفيه تناول مجموعة من العناوين بينها: الانبهار، إلى اليسار در، الرعية، النموذج، أهل الخليج، أبو الخيزران، التسوية، تركيا.

في موضوع الانبهار يعالج الوزير السعودي في مقال يعود لعام 1979 الصدمة الحضارية التي أصابت جيل المثقفين الذين تواصلوا مع الغرب، وتناول فيه «التأثير الذي أحدثه الغرب الليبرالي على العالم العربي خلال الفترة التي تمتد منذ الحرب العالمية الأولى أو قبلها بقليل، ورد فعل مثقفي العالم العربي، وخصوصا في مصر والشام والعراق، والتفريعات الفكرية الرئيسية التي اتخذتها ردة الفعل هذه على أساس أن المثقفين العرب في تلك الأقطار هم الذين قادوا الحركة الوطنية العربية الحديثة، وهم الذين يرجع لهم فضل إنشاء «الحركة العربية القومية الديمقراطية العلمانية التي يراد لنا أن نقتنع بأنها كانت الركيزة الفكرية للحركة الوطنية، ويراد لنا أن نحجم عن محاولة مناقضتها بمنطق إسلامي..» (ص 111).

وفي السياق ذاته، تحدث عن الفكر اليساري في مقال يرجع للفترة نفسها وهي عام 1979، وهو بعنوان «إلى اليسار در»، وفيه يشير إلى أن التوجه الماركسي لقي إقبالا (في خضم البحث عن بديل) حيث (تبناه بعض مثقفي تلك الدول العربية التي قدر لها أن تحتك بذلك الغرب بصورة مباشرة..)» (ص 114).

يجادل مدني، بالقول: «قيل لنا إن الوطنية والثورة الاشتراكية وجهان لعملة واحدة في عصرنا، كذلك الحرية والتغيير الاجتماعي، أي لا وطنية من دون ثورة اشتراكية، ولا حرية من دون تغيير اجتماعي ينبع من طرح وجهة نظر ديالكتيكية، جدلية، مادية..» (ص 115).

القسم الثاني من الكتاب ينقسم إلى أربعة فصول، الأول بعنوان: مع النفط والفكر، وفيه مقاربات فكرية عن ثنائية النفط والفكر، وهي كانت عبارة عن ندوة جاءت ضمن فعاليات مهرجان الجنادرية الثامن، مع ستة من المفكرين ينتمون لتيارات متعددة، هم عبد العزيز جلال، الدكتور محمود محمد سفر، الدكتور عبد الله الحامد، أحمد عباس صالح، وعبد الكريم عودة.

أما الفصل الثاني فجاء بعنوان: النظرية والتطبيق، وفيه أيضا مناقشة مع مفكرين عربيين هما محمد أمين العالم، وشوقي جلال.

والفصل الثالث بعنوان: مستقبل الثقافة العربية، في حين حمل الفصل الرابع عنوان: مفهوم الهجرة.

يقع كتاب «سن الزرافة» في 370 صفحة من الحجم المتوسط، وصدر عن دار فكرة للاستشارات الإعلامية.