فريد هاليداي.. مواقف متناقضة أم تمرد دائم على الأفكار المسبقة؟

مثلما أنصف العرب امتلك القدرة على إصابتهم بالصدمة

فريد هاليداي
TT

في دبلن عام 1946 ولد المفكر الأيرلندي الأصل فريد هاليداي. وفي مايو (أيار) الحالي 2010 أسلم الروح ببرشلونة الإسبانية، حيث البوتقة الأخيرة لأفكاره المتقدة والمتفاعلة منذ عقود.

من الصعب تصنيف هاليداي؛ فالرجل الذي يعتبره كثيرون مستشرقا جادا خصص آلاف الصفحات لدراسة العرب وقضايا الشرق الأوسط، وتماس مع حركات اليسار العربية، وأجاد لغة الضاد بجدارة، وارتقى إلى مرتبة المفكرين العالميين ممن يرصدون الحضارات ويراقبون شططها وجنوحها ويتنبأون بمستقبلها، فتخطت رؤاه حدودا أبعد من الشرق الأوسط وتاريخه وتموجاته السياسية وصراعاته. ومثلما أجاد العربية، أتقن إحدى عشرة لغة أخرى غيرها، وتعمق في تواريخ الناطقين بها وثقافاتهم، والتحم مع قضاياهم وذاق إحباطاتهم وأحلامهم في الحرية والعدل والحياة. ولعل اعترافه المتأخر بنيته الاتجاه إلى أميركا الجنوبية بحثيا «لأن هناك أملا ومتعة، بعكس الشرق الأوسط حيث لا أمل» لهو دليل على تمكن الإحباط منه.

درس هاليداي في جامعة أكسفورد العريقة، و«مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية»، كما نال شهادة الدكتوراه من «مدرسة لندن للاقتصاد» عن العلاقات الخارجية لليمن الجنوبي، والتحق بكثير من مراكز الأبحاث والدراسات كباحث جاد. أنتج ما يقرب من 20 كتابا في المعرفة والفكر الإنساني.

للشرق الأوسط نصيب وافر من اهتمام هاليداي، جعله يبدو في نظر كثير من المتابعين مدافعا جادا عن قيمه وتراثه وأديانه.. لكن الملمح الأهم لتنصيب البعض له كنصير للشرق، كان قدرته على التمرد على قناعته ونتائج دراساته السابقة بدراسات وآراء جديدة، حتى لو صدم ذلك بعض أصدقائه العرب، أو من يتعاملون مع الفكر كابن شرعي للمواقف المسبقة؛ سواء تلك النابعة من عباءة الآيديولوجيا، أو المذهبية أو حتى العقدية. كان عدوا للجمود الفكري؛ ففي الوقت الذي أنصف الإسلام مثلا بمؤلفه «الإسلام وخرافة المواجهة» الذي عارض فيه أفكار فوكوياما وهنتنغتون، وكتاب «ساعتان هزتا العالم» كان تأييده للتدخل الأميركي في أفغانستان والعراق صادما للبعض.. وكان من المستبعد أن يعتبر أحد هاليداي جزءا من المحافظين الجدد الداعمين للحرب، أو منظرا للإمبريالية في طورها الجديد، بل فقط توصل لقناعة تقول: إن مصيبة بعض المشرقيين تلخصت في الدعم الغريزي لأنظمة ديكتاتورية، بحجة محاربة الاستعمار الغربي. وهي الرؤية نفسها التي تبناها مفكرون عرب وقت غزو العراق، باعتبار أن التخلص من صدام لم يكن ممكنا بغير الغزو. ثم تأتي مرحلة المقاومة والتحرير كمرحلة حتمية في مواجهة الاستعمار.

تمرد هاليداي على طروحاته القديمة شمل موقفه من الثورة الإيرانية، فرغم تنبئه بثورة تجتاح النظام الشاهنشاهي في كتابه «إيران: الديكتاتورية والتنمية»، وتعاطفه المبكر مع الثورة الإيرانية باعتبارها «ثورة حمراء» منتظرة، فإنه سرعان ما هاجمها، خاصة مع صبغها بطابع الإسلام السياسي، وابتعادها عما كان يظنه من صبغات يسارية، كما اعتبر في توقيت لاحق أن الخميني يشق الصف الإسلامي، خاصة مع تحول الثورة باتجاه النزعة القومية الفارسية المواجهة للنزعة العربية.

تناول هاليداي العالم الإسلامي بكثير من التبحر، وبجرعات ليست قليلة من تحدي الأفكار السائدة في الغرب عن الإسلام والمسلمين.. ففي كتابه «ساعتان هزتا العالم» الذي رصد فيه أصداء وجذور أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في أميركا، مستندا على معرفة عميقة بأساليب ودوافع العنف السياسي عموما أهلته لها خبرته الشخصية كأيرلندي ذاق مرارة تفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي منذ عام 1956، في بلدته. فقد اعتبر مثلا أن صعود الأصولية الإسلامية لم يعقب الحرب الباردة، بل هو نتيجة لا تنفصل عنها، كما قال: «إن الإرهاب السياسي نتاج للحداثة نفسها»، آخذا في الاعتبار أن ضحايا البرجين كان بينهم مئات من العرب والمسلمين، فقد اكتووا بشرره أيضا، ولم يكن الغرب ضحية وحده.

وكعلاج لأزمات العالم، ومنها أزمة الإرهاب، دعا هاليداي إلى سيادة الرأسمالية، لكن بعد «أنسنتها»، مع التخلي عن الأفكار الطوباوية القديمة التي خلع عليها كثيرون القداسة، كما انتقد الصيغ التي بحث عنها مفكرون كبديل للرأسمالية. لكنه حسم الأمر في كتابه «إعادة التفكير بالعلاقات الدولية» الصادر عام 1994؛ حيث أعلن عن إيمانه بالرأسمالية كحل دائم لأزمات العالم، وهو الأمر الذي تناقض مع ماضيه الطويل كمفكر يساري بهرته تجربة السوفيات، التي تعلق بها واهتم بها بحثيا، وكتب عنها أوراقا وأبحاثا عديدة، بينها كتابه «السياسة السوفياتية في قوس الأزمة»، كما كان له موقف مشهور داعم للتدخل السوفياتي في أفغانستان، لكن سقوط التجربة كان سببا كافيا لتمرده على نفسه والتحول باتجاه النهج الليبرالي.

في كتابه «مائة وهم حول الشرق الأوسط» مارس هاليداي هوايته الدائمة في التمرد على المسلّمات، لافتا إلى أن بنيان بلدان الشرق الأوسط ومجتمعاتها يستند ثقافيا إلى تراث يدخل في تكوينه خرافات وأساطير، ومن بين تلك الخرافات والأساطير، بحسب رأي هاليداي، التبجيل التاريخي لمدينة القدس؛ فقال: إن مذابح الصليبيين لأهلها عام 1099 دليل راسخ على عدم تبجيل المسيحيين للمدينة تاريخيا، ورغم كونها موضع صلب المسيح، فإن مراكز تاريخية كروما وبيزنطة كانت أكثر لمعانا، وبالمثل في التاريخ الإسلامي؛ حيث ظلت برأيه (القدس) مجرد مدينة مهملة طوال قرون عديدة من التاريخ الإسلامي.

ومن بين ما اعتبره هاليداي أوهاما فكرية في الشرق الأوسط، طروحات بن لادن عن الخلافة، والخميني في نظريته، وكذلك دولة إسرائيل نفسها.. فالأفكار الثلاث اعتبرها هاليداي أفكارا حداثية، لا علاقة لها بالماضي، فكما أن دولة الخميني مشروع سياسي من بنات أفكاره، فكذلك مفهوم بن لادن للدولة، بينما لم تكن إسرائيل استثناء؛ فليس لها علاقة بمملكتي داوود وسليمان القديمتين.

ومن بين ما اعتبره هاليداي أوهاما أيضا الكوفية الفلسطينية المزركشة، التي اتخذتها الثورة الفلسطينية والداعمون لها رمزا يظهر في الصور، ويقترن بالهوية الفلسطينية. قال هاليداي: إنها غطاء رأس عسكري صممته مؤسسة تجارية في مانشستر له أصل سوري في العشرينات من القرن العشرين.

ومارس هاليداي صدمته في أمور فقهية متخصصة؛ فاعتبر الحجاب مثلا من بين أوهام الشرق الأوسط، مؤكدا أن القرآن الكريم تخلو آياته من فرض الحجاب على النساء، كما قال: إن الفن الإسلامي مصطلح زائف اخترعه مديرو المتاحف وأطلقوه على تشكيلات فنية متنافرة، وقال: إن هذا المصطلح ليس له أي أصل تاريخي أو لاهوتي.

كان لهاليداي تجربة بحثية أخرى تناول فيها العرب المهاجرين، بعنوان: «عرب في المنفى: المهاجرون اليمنيون في مدن بريطانيا». كما انخرط بشكل مباشر في الأوضاع السياسية العربية بعيدا عن الجهد الأكاديمي، وأنشأ بالتعاون مع عراقيين جمعية في لندن، أطلق عليها اسم «اللجنة ضد القمع والديكتاتورية في العراق» في نهاية الثمانينات، كجهد معاكس لتورط بعض الأصوات اليسارية في إنجلترا في الدفاع عن الديكتاتور الراحل صدام حسين.

في برشلونة، أسلم هاليداي الروح بسلام، لكن أفكاره لا تزال قلقة ومتفاعلة.. تنتظر دورات قادمة من التمرد على ذاتها.