«ألف ليلة وليلة» ملعون في مصر منذ ربع قرن

برّأه حكم قضائي قبل 25 عاما ووصف الخائفين منه بالـ«مرضى»

TT

منذ سبعينات القرن الماضي، وكتاب «ألف ليلة وليلة» موضع اضطهاد ومطاردة من بعض الجماعات في مصر. وبعد مرور ربع قرن لا يزال هناك من يعتبر أن فيه كما هائلا من الـ«فحش» والـ«فسوق» الخطرين، بينما يصفه آخرون بأنه درة تراثية سحرت العالم أجمع ويجب أن تصان برموش العين. المعركة طال أمدها، ولا شيء يشير إلى أنها اقتربت من خواتيمها.

بعد نحو 25 عاما من صدور حكم تاريخي أنصفه واعتد بقيمته، وأعاد الاعتبار إليه كأثر أدبي إنساني خالد، استفاد منه كل شعوب العالم. لم يسلم كتاب «ألف ليلة وليلة» من هجمات الظلام، وملاحقة شهر زاد حتى تكف عن الكلام المباح.

فبين ليلة وضحاها تحولت «الليالي» إلى متهم يشيع الرذيلة في المجتمع، بعد أن تقدم في 17 أبريل (نيسان) الماضي 9 محامين ينتمون لرابطة «محامون بلا قيود» ببلاغ إلى النائب العام يطالبون فيه بمصادرة الكتاب وحبس المسؤولين عن إصداره بتهمة أنه «يحتوي على كم هائل من العبارات الجنسية الداعية إلى الفجور والفسق وإشاعة الفاحشة وازدراء الأديان». وكانت «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، وهي مؤسسة حكومية أصدرت طبعة شعبية جديدة منه مصورة عن الطبعة الأولى التي نشرتها مطبعة بولاق أوائل القرن العشرين، وقد نفدت الطبعة الجديدة خلال ساعات من طرحها لدى الباعة.

ظل هذا الكتاب يتسكع في أروقة المحاكم المصرية، طوال 9 أشهر في عام 1985، حين طالب بعض أعضاء مجلس الشعب بمصادرته بناء على بلاغ ضده تقدم به للنائب العام ضابط شرطة، متهما الكتاب بأنه «يحوي قصصا وألفاظا وصورا مرسومة مخلة بالآداب العامة وخادشة للحياء ومنافية لأخلاق المجتمع المصري، مما يدعو النشء إلى الانحراف والفساد». وطالب البلاغ بحبس الناشر (مكتبة محمد صبيح وأولاده بحي الأزهر).

لكن الحكم التاريخي الذي أصدرته دائرة الاستئناف بمحكمة شمال القاهرة في 30 يناير (كانون الثاني) 1986 وصف من ينظر إلى «الليالي» باعتبارها عملا مخلا بالآداب العامة وتثير الغرائز بأنه «مريض تافه، لا يحسب له حساب عند تقييم تلك الأعمال الطيبة»، وقضت المحكمة بعدم المصادرة وبراءة الناشر.

لكن 25 عاما على صدور هذا الحكم التاريخي، لم تمنع المشهد نفسه من أن يتكرر، في حق كتاب تراثي مجهول المؤلف، ترجح كتابته إلى القرن الرابع عشر الميلادي، واستوعب تحت عباءته العربية حكايات وأساطير من التاريخ الإنساني، منها حكايات هندية وفارسية، واكتشف عظمته المستشرقون، وصار يترجم إلى شتى لغات العالم منذ ترجمه إلى الفرنسية المستشرق أنطوان غالان عام 1704. كما أصبح مادة ثرية لكتاب الدراما والرواية والقصة القصيرة، وبخاصة قصص الأطفال، ومصدرا لا ينفد لإلهام الفنانين بما يحتويه من مناخات أدبية أسطورية وقصص خرافية لشخصيات خيالية، صارت علامات بارزة في تاريخ القص العربي والغربي.

لكن عزاء «الليالي» يكمن في أن الهجمة الشرسة عليها هذه المرة قوبلت بموقف صلب من المثقفين المصريين، فأعلنوا في ختام «مؤتمر أدباء مصر»، الذي عقد مؤخرا، رفضهم مصادرة الكتاب وأهابوا بالنائب العام حفظ البلاغ المقدم ضده. وقال بيان الكتّاب: «إن إعادة نشر (ألف ليلة وليلة) أمر جدير بالترحيب لا المصادرة، مشددا على أهمية الحفاظ على التراث المصري والعربي والإنساني كما تركه الأجداد، وإن هذه القضية لا تخص الأدباء وحدهم، إنما تخص الأمة».

الأمر اللافت هو أن دعوى المحامين الـ9 لم تسلم من الخلط والأخطاء، إذ يقول حسام البساطي المحامي بالنقض، عضو رابطة «محامون بلا قيود»: «إن النسخة التي أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة طباعتها من كتاب (ألف ليلة وليلة) غير أصلية، إنما هي النسخة التي طبعت أول مرة في عهد محمد علي وجمعها شيخ تابع لطريقة صوفية، وكان شاذا جنسيا، وقد أضاف بعض النصوص على النسخة الأصلية وكلها نصوص تضم كلاما إباحيا وألفاظا خادشة للحياء، وهي التي يجب أن تنقح منها النسخة».

وتاريخيا يعد محقق النسخة هو العالم اللغوي الشيخ محمد قطة العدوي، أحد أبرز شيوخ الأزهر ممن حملوا لقب «علامة»، حيث حقق قائمة كبيرة من أمهات كتب التراث وتشمل «الفتوحات المكية» لابن عربي، و«رسائل الخوارزمي»، فضلا عن أن الطبعة التي نشرتها سلسلة «الذخائر» مؤخرا، مصورة عن طبعة «بولاق» الأولى، التي صدرت سنة 1835م، وسبق هذه الطبعة المصرية، طبعة «كلكتا» بالهند، التي يرجع تاريخ إصدارها لسنة 1814م وطبعة «برسلاو» في 1825م، لكن الطبعة المصرية صدرت كاملة بتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي، وكان يعمل كبير المصححين والمراجعين في مطبعة بولاق.

في المقابل يقول الكاتب جمال الغيطاني، رئيس تحرير «سلسلة الذخائر» التي أعادت نشر الكتاب: «إن البلاغ ينم عن جهل..»، مطالبا المحامين بإظهار مصادرهم التي يعتمدون عليها لتقرير مدى أصلية النسخة من عدمها، معتبرا أن الدخول في جدل معهم سيؤدي إلى تفاهات.

وحول مطالبة البعض من رافعي دعوى المصادرة بحذف الأجزاء والعبارات «الحساسة» و«المثيرة للغرائز»، يقول الغيطاني: «لا أعرف كيف يطالب محام بمثل هذه السقطة وهو يعرف أن حقوق الملكية الفكرية لا تجيز التدخل في المؤلفات، فما بالك بمؤلَف سقط في الحق العام، تناوب على تأليفه بلاد الهند، وفارس، والعرب».

ويؤكد الغيطاني: «إذا أقررنا مبدأ الحذف لن يكون هناك ذاكرة ثقافية، لأن جميع نصوص التراث العربي القديم محملة بأكثر مما هو موجود في (ألف ليلة وليلة)». ويقول: «أشعر دائما أن من واجبي إتاحة هذا النص العالمي الذي لم يلق تقديرا كافيا في ثقافته، ويعتبره البعض، من منطلق الجهل، فضيحة أو جريمة. أقدمت على طباعة طبعة الهند في ثمانية مجلدات ولم يكن أحد قد رآها، حتى كبار الباحثين لم يقفوا عليها لندرتها. وعندما عدت للإشراف على (الذخائر) لاحظت أن سعر طبعة بولاق المصورة عن الأصل يصل إلى ثلاثمائة جنيه مصري، وهي متاحة في الأسواق وعلى الإنترنت في أكثر من مائة وسبعين موقعا. وهنا يبرز الهدف الحقيقي لهذه العصبة من المحامين، لأن العمل الذي قدموا البلاغ ضده متاح تماما، فلم نضف جديدا بنشره، أيضا هناك حكم قضائي صادر عام 1986 عن محكمة الاستئناف يقضي بإتاحة تداول طبعة (ألف ليلة وليلة) الصادرة عن مكتبة محمد صبيح، هذا الحكم تاريخي بكل معنى الكلمة».

ويتفق د. عبد الحكيم راضي، أستاذ البلاغة في آداب القاهرة مع الغيطاني، مشيرا إلى وجوب أن نكون أمناء في نقل النص إلى الأجيال التالية، فأي نص يحمل بين طياته إيجابيات وسلبيات الأمة التي ولد فيها. ويستشهد راضي بموقف طه حسين عندما أثيرت ضجة في عشرينات القرن الماضي حول كتاب «أخبار أبي نواس» لابن منظور فما كان من عميد الأدب العربي إلا الدفاع، على الرغم من جرأة الكتاب على الدين، ويضيف: «على الباحث تحقيق كتب التراث، أي التأكد من صحتها لا إعادة صياغتها أو التدخل بالحذف أو الإضافة وعلى القارئ أن يدرك الدلالات المختلفة لأي نص تراثي، أما تشويه التراث بحجة حماية الأخلاق فسيؤدي إلى ضياعه».

وفي السياق نفسه، تقدم الكاتب محمد سلماوي، رئيس اتحاد كتاب مصر، ببلاغ للنائب العام ضد المحامين التسعة، يتهمهم بـ«محاولة فرض الوصاية على إبداع وتراث الأمة، والعودة بالوطن إلى عصور التخلف والانحطاط».

وأكد الاتحاد في بيان أصدره على «مساندته لكل الكتاب والمثقفين الذين سيتعرضون لمثل تلك البلاغات التي تستهدف ثقافتنا وحضارتنا»، وصدر البيان على هامش ندوة عقدها اتحاد الكتاب بعنوان «ألف ليلة وليلة ومستويات التلقي» طالب فيها المشاركون جابر عصفور، وأحمد مجاهد، وجمال الغيطاني، ومحمد سلماوي، وحسين حمودة بحماية التراث والدعوى لإصدار تشريع قانوني يمنع التطاول على المبدعين، ويمنع محاكمة الكتاب على إبداعاتهم إلا بمحاكمة ثقافية، ودعا بيان الاتحاد إلى تدريس فصول من «ألف ليلة وليلة» في المراحل التعليمية المختلفة، وأعلنت الندوة 2010 «عام ألف ليلة وليلة».

ووصف جابر عصفور مجموعة المحامين الذين تقدموا ببلاغ ضد «ألف ليلة وليلة» بأنهم «جهلاء بالتراث وبعظمته، معادون للعقل والاستنارة، لذلك رفعوا القضية تعبيرا عن جهلهم وانغلاقهم، وثمرة لتيار قديم الوجود في العالم العربي والإسلامي وهو الذي أدى إلى انكسار الحضارة العربية وانهزامها».

لكن اللطمة الكبرى التي وجهها المثقفون للتيار المطالب بمصادرة الكتاب جاءت في أعقاب قرار اللجنة العليا للنشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة أحمد مجاهد بإعادة طبع «ألف ليلة وليلة»، بعد نفاد الطبعة التي أصدرتها الهيئة مؤخرا. وأوصت اللجنة بتوزيع نسخ الطبعة الجديدة على جميع مكتبات الهيئة في الأقاليم وكذلك المكتبات العامة. كما قررت الهيئة إعادة طبع أطروحة الدكتورة سهير القلماوي عن «ألف ليلة وليلة» لنيل درجة الدكتوراه التي أشرف عليها طه حسين. وأوضح أعضاء اللجنة أن «ألف ليلة وليلة» تراث إنساني متاح في جميع أنحاء العالم، ومن أهم الكتب التراثية ولا يجوز المساس به أو مصادرته، رافضين ما نادى به البعض من حذف بعض العبارات، لأنه لا أحد يملك التدخل في أي عمل تراثي سواء بالحذف أو الإضافة.

ومن وجهة نظر الباحث في التراث الشعبي الدكتور صلاح الراوي: «(ألف ليلة وليلة) نص عابر للنوعية وللجغرافيا والتاريخ، وهو ممتد في الزمان والمكان، ولا خلاف في أي مكان في العالم على أنه يمثل درة من درر التراث العالمي، ومن غير المعقول أن تأتي جماعة من بيننا لتدين هذا العمل أو تطارده مرة تلو الأخرى، وكأنها وصية ليس على الوجدان العربي وحده، بل على وجدان العالم كله».

ويتابع الراوي: «التراث الشعبي لدى شعوب الأرض وعندنا في العالم العربي حافل بصور الشجاعة في معالجة الحياة الإنسانية، بكل تجلياتها وتضاريسها، و(ألف ليلة وليلة) بوصفها تراثا شعبيا عربيا وإنسانيا تأتي في هذا السياق العام. فالأمثال بها وغالبية النكات والمواقف تقوم على هذه المعالجة التي تمس المفارقات الإنسانية، وكذلك الحكايات الشعبية والمواويل والأشعار، فهل نلقي بكل هذه الإبداعات إلى المجهول المظلم، غافلين فريضة مهمة وهي حرية الإبداع تعبيرا عن النفس الإنسانية، ونرضخ لمن يلتقط كلمة من هنا أو هناك في انتقائية مريضة وتحت شعار كاذب هو (الأخلاق)؟!».

كلام الراوي يلفت إلى غياب قضية مهمة في غبار الدفاع عن «ألف ليلة وليلة»، يؤكده التقرير السنوي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان الذي يحصي 520 قضية متعلقة بحرية التعبير خلال عام 2009 فقط في مصر، بما يعني أن كل أيام السنة - باستثناء العطلات الأسبوعية - يقدم خلالها بلاغات تصادر أحد أشكال التعبير وأولها الكتب.

يعزز ذلك تاريخ وبلاغات «الحسبة» التي عانى منها الوسط الثقافي مرارا، وانضوى تحت عباءتها محامون المفترض فيهم الدفاع عن الحريات لا مصادرتها. وحسبما يقول الكاتب عزت القمحاوي فإن من طالبوا بمصادرة «ألف ليلة وليلة» لا يرون في النص إلا بعض الكلمات الجنسية، التي يمكن أن نصادف أضعافها على الطرقات وفي الفضاء الافتراضي والتلفزيون، مشيرا إلى أنهم يتفاجأون من «ألف ليلة» تحديدا، «لأن أحدا لم يُعدّهم ليستقبلوا على النحو الصحيح أكثر النصوص العربية ديمقراطية وتعددا في المعنى، لأنه من صنع مخيلات متعددة أغنت الحكي على مر تاريخ لا نعرف له بداية محددة».

ويتساءل القمحاوي في مقال له بصحيفة «أخبار الأدب» تعليقا على الأزمة: «لا حياء في الدين، وأيضا لا حياء في العلم. الحياء في الأدب فقط، وفي (ألف ليلة) بالذات، فما هذه المفارقة المضحكة؟ مع كل هذا لا نستطيع أن نحجر على رأي محامين أو حتى رأي كتاب سبق أن استهدفوا النص الأكثر جمالا في تاريخ الأدب، لكننا يجب أن نأسف على حال التعليم الذي لم يؤهل هؤلاء المتعلمين لتذوق الجمال في حكايات (ألف ليلة). لا يوجد نص واحد في نصوص التعليم قبل الجامعي أو كتب النحو يشير إلى (ألف ليلة) أو يشرح للطلاب غناها، على الرغم من كل ما كتب حولها ابتداء من سهير القلماوي حتى المغربيين الأكثر إبداعا بين من كتبوا عن (ألف ليلة): جمال الدين بن شيخ وعبد الفتاح كيليطو».

ويؤكد القمحاوي أن ظاهرة العداء لـ«ألف ليلة» تضع على المحك قضية مستقبل حرية التعبير، لافتا إلى أن هذا العداء «لم يبدأ إلا في منتصف سبعينات القرن العشرين، والطبعة المهمة اليوم هي نفسها طبعة المطابع الأميرية في القرن التاسع عشر، واستثمرتها إحدى دور النشر البيروتية على مدى عقود طويلة، مشكورة ولا نملك إلا أن نشكرها على تلك القرصنة التي أتاحت النص، ولم تسلم أيضا من مطاردة بوليس الآداب عام 1985».