محمد المزيني: أنتزع شخصياتي من قاع المجتمع لكي أتحدث بلسانهم

صاحب ثلاثية «ضرب الرمل» قال لـ «الشرق الأوسط» : أمارس التعرية لإزالة العوالق الزائدة

محمد المزيني
TT

محمد المزيني، روائي سعودي شاب، لكنه توجه لسبر أغوار المجتمع السعودي، خصوصا في العاصمة الرياض، وكتابة سيرة مجتمع مر بتحولات ضخمة في عمل ثلاثيته «ضرب الرمل».

في هذه الثلاثية كما في أعماله الأخرى تناول سيرة المجتمع السعودي مرورا بمرحلة ما قبل الطفرة «مفارق العتمة»، إلى رواية «عرق بلدي» التي يقول عنها إنها جاءت لتعرية المجتمع وكشف الزيف الذي يعيش فيه، ثم ثلاثية «ضرب الرمل» التي تضم «النزوح»، ثم «الكدح» وأخيرا «الدنس»

* قلت عن روايتك الأولى «مفارق العتمة» إنها جاءت لـ«تهتك أستار المجتمع المسدلة وتهز حالة الصمت»، أي أستار أردت هتكها؟ وهل وظيفة الروائي أن يهتك الأستار؟ ثم ماذا بعد أن تعرى ما تصفه بـ«الفضيلة الزائفة»؟

- لم يكن هذا القول منصبا على رواية «مفارق العتمة». قلت ذاك الكلام عن «عرق بلدي» وهي روايتي الثانية، وأعني بذلك الكشف الذي يعد في نظر بعض المتحفظين هتكا فأحببت أن أعبر عنها بلسانهم، استنادا إلى ما قدمته من شخوص أنتزعتها من قاع المجتمع، وبلورتها داخل أحداث. جاءت هذه التعرية لإزالة العوالق الزائدة إلى حد الزيف التي اقتحمت مجتمعاتنا على حين غفلة منا، لذلك عندما يكتب الروائي من واقع مسؤولية، فإنه سيتحمل وزر اللعنة التي سيقذف بها لمجرد التماس مع هذه الأسلاك المجتمعية العارية، التي تنذر بالويل والثبور لكل مقترب منها.

* ثمة رغبة لدى الكثير من الروائيين على تحميل مضامين تبدو كأنها خطابات فكرية أو سياسية داخل الرواية. ألا تعتقد أن «مفارق العتمة» اقتربت من الخطاب الآيديولوجي على حساب عفوية وفنية الحكاية؟

- رواية «مفارق العتمة» لم تقتحم أي خطاب سياسي أو فكري لا من قريب أو بعيد، بل كانت عدسة تلتقط الأشياء الدقيقة في مجتمع ينتظر جرارات التغيير على كل المستويات، فلم أكن أتبنى أو حتى أورد أي رأي أو فكرة مسبقة تصنف على البعد الآيديولوجي.

* تجربتك الثانية رواية «عرق بلدي»، تتناول فيها سيرة المجتمع السعودي ما بعد الطفرة، لكنها غصت بالتفاصيل الدرامية مما جعل البعض يقول إنها نموذج شبيه بتقنية «الأفلام الهندية». بالنسبة إليك، ماذا أردت أن تضيف في هذه الرواية؟

- ربما لأني نقلت حياة مجتمع غائب عن كثير من الأذهان أو مغيب عنه، فالبرجوازي أو حتى الأرستقراطي يتماس مع المجتمع من نافذة سيارته الفارهة بمثل ما كان يعقوب وصاحبه يتابعان مشهدية المدينة اللامعة على رصيف من أرصفة طريق الملك فهد، ويتلمظان بحسرة أمام كل مظاهر الترف والبهجة التي ينغمس فيها أبناء بعض المدينة، لذلك يسعيان من أبواب خلفية للوصول إلى متعهما وبطرق خاصة تمنحها لهما الأحياء المنكسة على فقرها وصمتها. وعلى الرغم من ذلك لم تكن الرواية تعج بتفاصيل دقيقة، وكنت أتمنى أن لو غصت في أدق التفاصيل التي تكشف رهافة مجتمعنا، وما كان يمنعني من ذلك سوى الخشية من تضخم الرواية فيعجز القارئ عن مواصلة قراءتها. كم تمنيت لو كنت أمام شخصيات الأفلام الهندية، التي تنتقم لنفسها بطرق بهلوانية كأن تقفز البنايات الشاهقة، أو أن تسابق السيارات السريعة ركضا، بغية الانتصار، الأبطال في «عرق بلدي» انتهوا بمعانات أشد وأنكى، لتبتلعهم أمواج المدينة المتلاطمة.

* ماذا منحتك «الرياض» العاصمة التي ظلت تخيم في فضائك الروائي؟ ثلاثية «ضرب الرمل» كانت نموذجا من تأثير المدينة في فضاء الرواية وتفاصيلها؟

- الرياض هي المنحة الكبرى لكل قاطنيها والواردين إليها من كل حدب وصوب، مثلها مثل أي مدينة عالمية مركزية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، فهي تمارس دراماتيكيا رسم فضائها في الأذهان مباشرة، وتفرض طقوسها قسرا، هذه المدينة التي تحمل بين طياتها الأشباه والنقائض، وتخاتلنا من حيث لا ندري، لنكتشف بعد حين أنها كانت تمارس غواياتها من أبواب خلفية حتى نقع في مصيدتها الكبرى. ومع ذلك فهذه المصيدة تسبغ علينا شيئا من القبول والتسليم، لنكتشف أننا داخل هذه الشباك كأسماك صغيرة آمنت بقدرها فأسلمت إليها روحها بغبطة. هذا المعنى هو تماما ما استوحيته في ثلاثية ضرب الرمل.

* رواياتك تتركز على الرياض، هل يعود ذلك لاعتبار أنها نموذج التعدد السكاني، أم لأنها نموذج للتغيير الطارئ في صورة المدينة القديمة؟

- الرياض هي العاصمة التي تجمع شتات المدن السعودية، وكما ألقت بظلالها على سكانها فقد فرشت خميلتها على كل مناطق المملكة، فأصبحت المنارة والقبلة لأبناء المملكة قاطبة، ولم يعد لزوايا الأمكنة القصية خصوصية تذكر، عدا خصوصية الوطن المتلبسة في الرياض.

* أين تلتقي أجيال الثلاثية: «النزوح»، و«الكدح»، و«الدنس»، وأين تفترق؟

- ليس من قدر هذه الأجيال في ثلاثية «ضرب الرمل» أن تلتقي إلا وفق ما تمليه عليها المصالح. فالنازحون إلى المدينة للبحث عن لقمة العيش يظلون وفق رهاناتها، مشتغلين بالبحث عن مكامنها ومخابئها، هذه المعادلة التي تفرضها المدينة ربما تجتمع هذه الأجيال عندما تحل الفاجعة ويستشري مصابهم حزنا في قلوبهم. عندها يتنادون للقرب عقب الهجران بقلوب متقرحة بالأسى ولكن بعدما تنكشف الوجوه سافرة بضغائنها وأحقادها.

* ماذا بقي من صورة المدينة الصاخبة، وهل ترى أن «الدنس» تصلح نهاية لثلاثية الرمل؟

- ليس لي أن أقرر الآن هل تصلح أو لا. الثلاثية انتهت وكل ما أعلمه عنها أنها كتبت وفق تحولات كثيرة احتل البعد النفسي منها الحيز الأكبر، لذلك كانت انسيابيتها مرهونة بهذه التحولات، ثم إن النهاية لم تكن نهاية حقيقية، فالحياة متمددة بما بقي من شخوص الرواية الذين لا يزالون يتجرعون ويلات فقد بعض المؤثرين على نهج حياتهم، وحتما ستتغير الصورة، وسيخرج لاعبون ومؤثرون على حياة الأسر الثلاث، لذلك تركت هذه الأسئلة قائمة، يديرها القارئ في رأسه وفق ما تمليه عليه ظروف الحياة المعاشة.

* في الثلاثية ثمة عودة لأسلوب الروايات الأولى «مفارق العتمة» و«عرق بلدي» في التصدي لسيرة المجتمع وتأثير الاقتصاد على سلوكه. ألا تشعر أن مجتمع الثمانينات والتسعينات قد تغير ودخلت عناصر أكثر تأثيرا في حراكه؟

- بعض الروائيين الفرنسيين مثلا كتبوا رواياتهم عن حقب ماضية، ونفخوا فيها حياة جديدة، بمعنى أن الماضي مادة جديرة بالعناية، فثمة شخصيات وأحداث جديرة بالبعث والاستحضار، ربما ينظر إليها أنها بمثابة شهادة على واقع ولد وقائع وأحداث كثيرة أثرت بدورها على تكوين المجتمع بأخلاقه وعاداته وتقاليده، فـ«مفارق العتمة» تناولت جيل ما قبل الطفرة ونشوء بعض الظواهر الجديدة، أما «عرق بلدي» فهي تغوص في جسد مجتمع لا يزال موجودا ويلتئم على مآسيها، بل ربما تضاعفت بشكل ملحوظ، فعندما صورت بيت الأسرار الذي تديره أم صنات لم يكن هناك ما يعرف بالبلوتوث وجوال الكاميرا الرقمية، الذي نقل لنا بشكل لا يقبل التكذيب صورا متعددة ومتنوعة لبيوت أسرار كثيرة تشبه بيت أم صنات.

* أين تجد نفسك بين الروائيين السعوديين؟ مَن مِن الروائيين تأثرت بهم؟ إلى أي من هؤلاء تشعر أنك منجذب في تجربتك السردية؟

- أجدني واحدا منهم، وأكره التصنيف لأن ذلك يسقطنا في مغبة المفاضلة المجحفة، فالنصوص هي التي تتحدث عنا بشكل أدق، وأنا أقرأ للكثير وقد أفدت من كل التجارب، لكن حقيقة ما كان يمتعني من بين الكتاب العالميين هو هرمان هيسه، ومن الكتاب العرب واسيني الأعرج. أنا مع النص الجيد بغض النظر عن اسم الكاتب أو مرتبته بين الكتاب. لقد أصبحت لا أؤمن بالأسماء.

* ماذا تقول عن التجربة السردية لجيل الشباب؟ ما الذي يفرق ما يقوله الروائيون الشباب عن نظرائهم السابقين؟

- الكتاب الشباب لديهم تجارب كتابية مختلفة. بالأمس انتهيت من رواية لأحد الشباب فوجدت أنها تفوق تقنيا كثيرا من أعمال الكبار، خصوصا في إصداراتهم الأخيرة. ولكن ما يعيب الشباب أحيانا الاستعجال، والكتابة في أماكن مغلقة مع قدراتهم السردية الخاصة، فلو انطلقوا إلى فضاء المجتمع والتقطوا شخصياتهم من فصائله المتنوعة لأثرونا بنصوص مختلفة، تعبر بطريقة أدق عن روح العصر، وفي المقابل نحن انقطعنا تقريبا عن الشباب الذي يحملون هموما مختلفة ويعبرون عنها بلغة مختلفة أيضا.