«الفن من أجل الدين» في معرض يسافر بزواره 400 سنة

النقد العلماني الأميركي عاجز عن فهم لوحات رسمت بريشة خاشعة

لوحة خوان مارتينز مونتانيز «لا بوريزما» تعود إلى سنة 1628
TT

يعرض «ناشيونال آرتز غالاري» (متحف الفنون الوطني) في واشنطن منذ شهرين ولشهرين مقبلين، لوحات فنية تحت عنوان «ديفاين بيكمز رياليتي» (المقدس يصير حقيقة). يجمع المعرض لوحات دينية رسمت قبل 400 سنة تقريبا، وجاءت أغلبيتها من إسبانيا، وتبلغ قيمتها ملايين الدولارات، ولهذا تحيط بها حراسة مشددة.

في سنة 1621، اكتمل رسم واحدة من هذه اللوحات بريشة الرسام الإسباني غريغوريو فيرنانديز، وهي لوحة «المسيح المصلوب». عندما أكملها، أعلن قساوسة الكنائس هناك أنهم سيصلون له كل سنة، ليس فقط لأنه رسم لوحة دينية، لكن لأنه، خلال ثلاث سنوات قضاها يرسم اللوحة، كان يبدأ كل يوم بالصلاة، وأحيانا بالصيام، وأحيانا بالبكاء على ذنوبه حتى تسيل الدموع من عينيه.

وإذا كان بعض فناني ذلك الوقت خلطوا بين الفن والدين، فإن بعض رجال الدين رسموا ونحتوا. وقال واحد منهم «ما دام الفن ينشر الدين، فلا بأس به. وما دام التركيز هو على الهدف وليس على الرسم أو النحت، فلا بأس أيضا». وقال إن الفن يمكن أن يكون من أجل الدين، وليس من أجل الفن. كتب بليك غوبنيك، محرر فني في صحيفة «واشنطن بوست»: «لم يكن فيرنانديز، وهو يرسم لوحة دينية، وهو قوي الإيمان كما يبدو، يؤمن بالفن من أجل الفن. لقد سبق هدفه فنه، ولولا الهدف ما كان الفن». وسأل صحافي آخر: «أيهما أهم: الهدف أم الوسيلة؟» وأجاب «لا يوجد ضمان بأن أي عمل فني سيشتهر ويدوم. لكن، يوجد ضمان بأن العمل الفني الديني سيدوم ما دام ذلك الدين». وانتقد الصحافي من سماهم «الناقدين الفنيين العلمانيين»، وقال إنه واحد منهم «لأننا، عندما نحكم على لوحة دينية تاريخية، نحكم عليها كما ننظر نحن إليها. وهذا خطأ. يجب أن نحكم عليها بالنظر إلى ما ورائها. هذا موضوع معقد، وربما لا نهاية للنقاش فيه، لكنه مهم، وأهم من اللوحة نفسها». وأضاف «ابتعدنا كثيرا عن تقييم اللوحات الدينية، لأننا ابتعدنا عن الدين. وصرنا ننظر إليها وكأنها شيء غريب ومعقد. وصرنا نفضل أن نتحاشاها. الآن، إذا دفعتنا هذه اللوحات الدينية نحو فهم جديد للموضوع، ستكون واحدة من أهم اللوحات الفنية التي تعرض في تاريخ واشنطن».

ليس هذا معرضا دينيا، فاللوحات جزء من التراث التاريخي الأوروبي، بصرف النظر عن معناها الديني. ويشاهد الذي يزور المعرض راهبات صامتات يغطين كل أجسامهن وسط مراهقات صاخبات يرتدين ملابس صيفية شبه عارية. وحسب كتيب يوزع على زوار المعرض، ليس الهدف منه نقاشا فنيا عن نظرية «الفن من أجل الفن». لكن، لا بأس إذا ناقش ذلك الذين يزورون المعرض.

وللموضوع صلة بخلفية الحضارة الغربية، ففي سنة 1901 رسم جيمس ويسلر، وهو رسام أميركي تجريدي، لوحة لفراشة جميلة لكن ذنبها ذنب عقرب، وكتب الآتي «من قال إن كل شيء يجب أن يكون كما هو متوقع منه؟ لا يحتاج الفن إلى هدف أخلاقي، بل يمكن أن يكون تحديا أخلاقيا أو معاديا للأخلاق. يجب أن يكون الفن مستقلا عن أي شيء، يقف وحيدا، فرديا، إبداعيا، حرا، مستقلا، يمثل نفسه». وكتب أيضا «يجب أن يكون الفن هو ما نرى وما نسمع فقط، من دون عاطفة خارجية، من دون حب وكراهية، من دون وطنية وتدين».

لا بد أن بليك غوبنيك، المحرر الفني في صحيفة «واشنطن بوست»، يعرف كثيرا عن هذه النظريات العلمانية العقلانية المتجردة، لأنه، بعد أن زار معرض اللوحات الدينية الأوروبية القديمة، كتب «نشاهد، نحن العلمانيين الذين نحب الفنون، هذه اللوحات الدينية، ولا نكاد نفسر أحاسيسنا نحوها، وما كنا سنفعل الشيء نفسه لو شاهدناها قبل خمسمائة سنة. وها نحن الآن ننبهر، ولا نقدر على أن نفسر ما نشاهد». وأضاف «صرنا نحن النقاد الحداثيين نصف لوحة أو قصيدة أو رواية، بأنها فنية، ونقصد المنظر أو الأبعاد أو الكلمات، بينما هذه اللوحات والقصائد والروايات ليست إلا وسائل للوصول إلى هدف، ربما لا نشاهده أو نقرأه أو نلمسه».

لم يكتب الصحافي عن القطعة العملاقة من الآلة الكاتبة الموجودة في واشنطن، على شارع «كونستيتيوشن» (الدستور)، والقريبة من متحف الفنون الوطني. صممها السويدي أولدنبيرغ، صاحب نظرية «الفن من أجل المجتمع». ولم يتحدث عن نظريات فنية جديدة. لكن، مع بداية القرن الحادي والعشرين، ومع ظاهرة «فيث» (إيمان) الجديدة في الحضارة الغربية (خاصة في أميركا)، ربما ستظهر نظرية مثل «الفن من أجل الإيمان»، وحتى إذا ظهرت، ستظل بعيدة عن نظرية «الفن من أجل الدين» التي صورتها اللوحات الدينية الأوروبية قبل 400 سنة، والتي يعرضها متحف الفنون في واشنطن.