علي عبد الله خليفة: الشعر ملاذي من التصحر الروحي

الشاعر البحريني يرى أن تجاربه الشعورية متنوعة ومنفتحة على الجهات الأربع

.. مع الفنان احمد الجميري
TT

تمثل تجربة الشاعر البحريني علي عبد الله خليفة، الذي يدشن هذه الأيام في العاصمة الفرنسية باريس الطبعة الثانية من كتابه «وشائج»، الذي يتضمن منتخبات من أشعاره، إحدى أبرز تجارب الشعر الحديث في البحرين. فقد مثل ديوانه «أنين الصواري» الذي صدر عام 1969، بداية مرحلة مهمة من الانعطاف في الشعر البحريني نحو الشعر الحديث، بعد أجيال من الشعر الكلاسيكي، التي كان أبرز روادها الراحل إبراهيم العريض، وأحمد بن محمد الخليفة، حيث اتسمت أشعارهم بالغنائية الرومانسية. ومثلت مرحلة «أنين الصواري» انعطافة نحو مرحلة الشعر الحديث، بدأها خليفة، وشارك فيها فيما بعد قاسم حداد، وعلي الشرقاوي، وأمين صالح، وعلوي الهاشمي.

وخلال هذا الأسبوع، يحتفي الشاعر علي عبد الله خليفة في العاصمة الفرنسية، باريس، بالطبعة الثانية من كتاب «وشائج»، بعد نحو عام من تدشين الكتاب أول مرة وبعد نفاد جميع نسخ الطبعة الأولى. وبحسب ما أفيد فإن مؤسسة «ربيع الشعراء» التي دعمت إصدار الكتاب في البحرين في مايو (أيار) 2009، ستستغل فرصة وجود الشاعر في مدينة باريس هذا الشهر في إطار أمسية شعرية موسيقية بحرينية ينظمها معهد العالم العربي يوم 26 مايو، لتدشين طبعة «وشائج» الثانية من خلال أمسية أخرى موازية. وستستضيف الدار الناشرة، وهي «أتيليه غرافيك» في مقرها، تدشين الكتاب الذي أنجزت طبعته الثانية لكي يلبي خصيصا حاجة القارئ الفرنسي، بالإضافة إلى قراءات شعرية بصوت الشاعر.

كتاب «وشائج»، هو عبارة عن منتخبات من أشعار علي خليفة، تغطي كامل مسيرته الشعرية، بشقيها الفصحى والمحكي، بالإضافة إلى دراسات نقدية. وقد صدر الكتاب بدعم من مؤسسة «ربيع الشعراء» بفرنسا في الوقت الذي عملت الفنانة الفرنسية شانتال لوجندر على توضيب اللوحات المصاحبة له من خلال شفافيات خاصة سحبت أساسا على الزجاج المعشق، وهو الخامة الأساسية التي وضعت بها اللوحات.

تمثل تجربة «وشائج» حيث يقترن النص الشعري بالفن التشكيلي (تعالق النص بالتشكيل) بحسب أستاذ النقد والأدب الحديث بجامعة البحرين الأكاديمي إبراهيم عبد الله غلوم، انسجاما مع (تيار الإحساس بالعالم وبالبيئة وبالحياة).

علي خليفة، بالإضافة إلى كونه صوتا بارزا في حركة الشعر البحريني الحديث، هو رئيس مجلس إدارة الملتقى الثقافي الأهلي، وعضو مؤسس في أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، ويعمل مديرا لإدارة البحوث الثقافية بالديوان الملكي في البحرين.

صدرت له أول مجموعة شعرية عام 1969 «أنين الصواري»، عن دار العلم للملايين بلبنان، كما أصدر عام 1970 «عطش النخيل«، تلاه «إضاءة لذاكرة الوطن» 1973، ثم «عصافير المسا» 1983، تلاه «حورية العاشق» 2000، و«يعشب الورق» 2005، و«لا يتشابه الشجر» 2005، و«على قلب واحد» 2005، ثم «قمر وحيد» 2006.

«الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي في المنامة مع الشاعر البحريني علي عبد الله خليفة:

> ربط الناقدان يوسف شحادة وبربارا ميخالاك في كتابيهما «في عالم علي عبد الله خليفة الشعري» حياتك في المكان الأول الذي نشأت فيه، وهو البحرين، بحياة نصوصك الشعرية. بم يمكن أن نربط الحياة الأخرى لنصوصك، وهي خارج المكان (باريس) حيث تطل منها هذه الأيام، متقاطعة مع لوحات شانتال لوجندر، ومترجمة إلى الفرنسية؟

- منذ أن كنت طالبا أتهجى لغة أجنبية، وضعتني الصدف الجميلة في طريق البروفسور الدنماركي بول أولسن خبير علم موسيقى الأجناس، والبروفسور السويسري الفرنسي سايمون جارجي رئيس قسم الدراسات الإسلامية والشرقية بجامعة جنيف سابقا، في زياراتهما الميدانية، حيث كنت دليلهما للقاء النهامين وفناني أهازيج الغوص على اللؤلؤ. تعلمت من هذين الأستاذين الكثير وأدركت مبكرا أهمية وقيمة اجتياز حاجز اللغة من أجل التواصل والتفاعل مع الآخر بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون. وقد عمق لدي هذا الفهم انضمامي إلى المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV) واختلاطي المنظم بأقوام وأجناس وشعوب تقدم أفكارها وأغانيها ورقصاتها وأزياءها بحب رغبة في إظهار أجمل ما لديها من إبداعات لإبهار وإسعاد الآخر ونيل إعجابه.

هاجس نقل تجاربي الشعورية إلى لغة أخرى كان دائما يقلقني ويدفع بي إلى التفكير في أساليب ووسائل تغاير ما هو مطروح ومتداول من سبل وأشكال. من خلال عنوان «وشائج» يمكن إدارك رابط الحياة الأخرى لنصوصي الشعرية هذا الخيط الإنساني الرفيع الشفيف الذي يوثق أكثر من وشيجة ويؤصل أكثر من رابطة حميمة بين بني البشر، فتجاربي الشعورية متنوعة ومنفتحة، كفرد من أبناء شعوب الجزر، على الجهات الأربع وعلى أكثر من أفق وأي إنسان في أي مكان من العالم سيجد نفسه ومشاعره فيها بشكل أو بآخر، فالحب على سبيل المثال وشيجة إنسانية مشتركة وأشعاري في أهم جوانبها تعالج الكون بالحب وكيف يمكن بهذه العاطفة الربانية النبيلة أن تحل كل مشكلات بني البشر.

> يذهب الناقد الفرنسي جاك روبو في مقال نشره في أحد أعداد «اللوموند» الأخيرة – يناير (كانون الثاني) 2010 - إلى أنه «لم تعد للشعر أهمية» واصفا بذلك المآلات التراجيدية لحركة الشعر في عموم المشهد الأدبي بأوروبا. في مقابل ذلك نقرأ في الصحف عن نفاد كتابك «وشائج» - الذي دعمت إصداره مؤسسة أوروبية هي «ربيع الشعراء» - في غضون عام واحد من إصداره (2009)، والاستعداد لإصدار طبعة ثانية له، فرنسية. ما دلالة ذلك؟

- كنت قبل يومين أتباحث مع ناشر صيني يجيد العربية ويزور البحرين في مهمة إعلامية، وقد أعجبته تجربة «وشائج». ومن بعد أن أمضى ليلة وهو يتصفح الكتاب طرح فكرة ترجمة نماذج من أشعاري إلى الصينية، فبادرته بالسؤال عما إذا كان الشعر بصفة عامة مقروءا، في الصين فأجابني بما معناه أنه إذا ظلت العاطفة وظل لدى الإنسان قلب يخفق بين أضلاعه سيظل الشعر حيا ومقروءا. وأزيد على قول صديقي الصيني بأن الشعر بموسيقاه وغنائيته سيظل ملاذا من التصحر الروحي والجفاف العاطفي لإنسان كل العصور رغم كل المتغيرات. «لم تعد للشعر أهمية» كما لم تعد لأي فن أو أي شيء آخر أهمية سوى الثروة والسلطة والجنس واللهو الفارغ واستغلال الآخرين. ربما «لم تعد للشعر أهمية» قياسا بازدهاره وبأهميته في أزمنة عظيمة أخرى، فالفنون ترمومتر الحضارات، إذ تضمحل وتقل قيمتها مع تردي أوضاع الأمم وانهيار قيم وأخلاق الشعوب.

الناقد الفرنسي جاك لوبو قد يكون محقا في تشخيص وضعية الشعر في عموم المشهد الأدبي بأوروبا، لكننا نشهد في المقابل جهود مؤسسة ربيع الشعراء التي أنشئت قبل نحو 10 أعوام في باريس بمبادرة من جان لانغ، وزير الثقافة الفرنسي السابق، التي تهدف إلى إعادة الاعتبار إلى فن الشعر العظيم، والعمل على النهوض به في فرنسا وربطه بحركة الشعر في العالم، ورعاية بيوت الشعر الأهلية والرسمية التي تأسست في أعقاب ذلك، والنجاحات المضطردة التي حققتها هذه المؤسسة بقيادة الشاعر الفرنسي الكبير جان بيير سيميون من خلال المهرجانات الفصلية وأعمال النشر الرائجة في عموم فرنسا، وما «وشائج» إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة لكتب مهمة جميلة ورائجة، تشي بأهمية ومكانة الشعر الباقية. أما في عالمنا العربي فلا يوجد تشخيص موضوعي لحالة الشعر لدى الجمهور سوى وجود أكثر من مجلة أسبوعية رائجة للشعر في الخليج العربي توازيها مسابقات الشعر الكبرى التي يشارك فيها جمهور غفير عبر الفضائيات.

> تتجه تجربتك في خلال الفترات المتأخرة إلى تكثيف عملية المزاوجة مع أشكال الإبداع الأخرى، سواء مع اللوحة، أو مع الموسيقى، أو حتى مع السمعيات التي كنت سباقا من بين الشعراء إلى إرفاقها بدواوينك. هل يمكن القول إن الشعر قد كف عن أن يبدع وحيدا، أم أن المزاوجة هذه هي بمثابة حياة أخرى له ناتجة عن الحوار والمشاركة لا على الصوت الوحيد المنفرد؟

- لم يكن الشعر وحيدا قط، فقد نشأ في حضن الحداء والإنشاد، وكانت العرب منذ أزمان تقول: «أنشد الشاعر قصيدا»، فالموسيقى أساس في تكوين الشعر ومن دونها لا يسمى الكلام شعرا مهما اصطرعت الأجناس وجد جديدها. والشعر ظل رديفا للكثير من الفنون، فهو حجر أساس في أي أغنية وهناك المسرح الشعري والأوبرا، والشعر موجود أينما وجد الإيقاع ووجدت الموسيقى والأوزان. ولأن الشعر إحساس شفيف وأسلوب مرهف في التعامل مع الحياة استخدمه المصورون والتشكيليون والمثالون وكتاب السيناريو وكل مبدع حتى قيل عن الجو، وهو فضاء يحوي عدة مكونات، إنه جو شاعري. الشعر الحقيقي يبدع وحيدا في خلوة شعورية فذة لكنه كالرائحة العطرة النفاذة تملأ الأرجاء حين نفتحها على من حولنا لتفعل فعلها وتتحد بما حولها كل حسب قابليته وإمكانيات تفاعله.

حين أكتشف في غالبية نصوصي الشعرية حزمة مؤتلفة من الفنون لا أتوانى عن إطلاقها على يدي وعلى أيادي فنانين أقتنع بقدرتهم مجتمعين على تحقيق عمل هارموني يفتح للفراشات نوافذ كثيرة على حديقة كبرى ملأى بالأزاهير والورود. أرى النص كالطائر حبيسا في قفص الورق وعلي تحرير هذا الطائر وإطلاقه في فضاء دون حدود بكل السبل وبشتى الطرائق الممكنة والمناسبة. وعلى الشعر أن يظل في حوار وتناغم دائمين مع مختلف الفنون إلى جانب إبداعات العصر ومبتكراته وأن يتوسل كل ما يتناسب مع طبيعته للوصول والتأثير على أن يطور ويحدث مع احتفاظه بأصوله الأساس كفن ذي ركائز وجذور.

> في هذا الإطار، كيف يمكن أن نقرأ «زواج» أشعارك بإيقاعات الفنان أحمد الجميري. لقد بدأ هذا المشوار في السبعينات بقصيدة «غني يا عصفورة شعر» و«مواويل مسلسل دانه»، وفي التسعينات كانت «يكبر علينا العشق» و«تستاهلين الخير» ثم ما لبث أن اتخذ مع الألفينات صفة «اللازمة». هل لأن حساسيتكما الإبداعية هي من نفس النوع مع اختلاف الوسيلة: ثيمة التراث، الرمز المحلي، المراوحة بين اللغة الفصحى والمحكية. أم أن هناك أمرا آخر؟

- نشأت والجميري في بيئة البحرين البحرية في حيين شهيرين بمدينة المحرق، كانا قريبين من مركز إشعاع وممارسة أغاني وأهازيج الغوص على اللؤلؤ، وكنا قريبين من دور الطرب الشعبي «دار مرزوق، دار علي بن صقر ودار بن حربان» بحيث تشبع كل منا بروح تلك الأجواء وفنونها وتقمصت أرواحنا جنيات البحر وأرضعتنا أساطير الهولو وحكايات الأصداف، وملأت قلوبنا أشعار النخيل ونصوص أغاني وإيقاعات فن الصوت والخماري وحداء النهامين وغسلتنا مياه الينابيع البحرية العذبة. شيئا فشيئا اكتشفت بأن صوت الجميري ذا القرار القوي الرخيم والنفس العذب الطويل هو ما تحتاجه مواويلي، وبأن عزف الجميري وأداءه يعنيني وحدي من بين كل الناس، وهو القرار العميق والصدى القوي الجميل لما أريد أن أقول، فإحساسه المرهف في تلقي النص واستيعابه والتفاعل مع مفرداته لا يحتاج إلى عناء، وهو يبرع بصورة فائقة حين يؤديه ويتمثل معانيه بعمق. لدى هذا الفنان قدرة فطرية فائقة على إتقان الارتجال الفني الناجح على آلة العود حين يرافق إلقائي لقصائدي، إلى جانب شخصية فنية جاذبة ومؤثرة. هذه المجايلة وهذه المعايشة البيئية المشتركة جعلتنا من تجربة إلى أخرى على قلب واحد وقد نجحت كل الأعمال الشعرية الموسيقية السينوغرافية المشتركة التي تعاونا على مسرحتها داخل البحرين وخارجها.

أحس بأن لدى هذا الفنان مخزونا موسيقيا تراثيا لم يجد الطريق بعد إلى عمل درامي ملحمي عظيم.