سيطرة اليمين على مقاليد السلطة في أميركا لم ولن تنتهي برحيل بوش

هل انطفأت الأنوار في أميركا؟

الفكر المقيد بالأصفاد المؤلفة: سوزان جورج
TT

فوجئت بالكتاب الذي أصدرته سوزان جورج عن الفكر المقيد بالأصفاد. وفيه تشرح كيفية استيلاء اليمين الديني والعلماني على أميركا. الكتاب ممتع بدون شك ومليء بالتحليلات النافذة والمعطيات الدقيقة عن أكبر قوة في العالم، وجورج أميركية الأصل، وتكتب بالإنجليزية، وإن كانت تحب باريس كثيرا، وتعيش فيها طويلا. ولها شرف النضال في المعسكر المناهض للعولمة الرأسمالية التي يقودها اليمين الأميركي والغربي عموما. وعناوين كتبها السابقة تدل عليها، وعلى توجهها الفكري والسياسي، نذكر من بينها: «كيف يموت النصف الآخر من العالم؟» ثم «عالم آخر ممكن». وفي رأيي إنها قريبة من توجهات المفكر السويسري المشهور جان زيغلير؛ فهي مثله تدين الغرب في وجهه المتغطرس، الجشع، اللا إنساني. وهذا يعني أن الغرب غربان، لحسن الحظ، لا غرب واحد، وإن كان الغرب اليميني هو المهيمن حاليا، للأسف الشديد. والواقع أن هيمنة اليمين ابتدأت منذ عهد ريغان وثاتشر في الثمانينات من القرن الماضي، ثم تواصلت بالطبع في عهد بوش الابن حتى بلغت ذروتها. وأما عهد بل كلينتون الليبرالي المستنير؛ فلم يكن إلا فاصلا قصيرا بين يمينين؛ اليمين السابق، واليمين اللاحق.

لكي نفهم هذا الوضع ينبغي العلم بأن الثورة الطلابية والتحررية الجنسية التي اندلعت في الستينات في أميركا وأوروبا زادت عن حدها. والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقال. إنه حتما يثير رد الفعل المضاد له؛ فهذه الثورة اليسارية تجاوزت الحدود في تقويض القيم التقليدية؛ كقيم العائلة والزواج والإنجاب، وأخافت بالتالي قسما كبيرا من المجتمع الأميركي والأوروبي الغربي. ووصل الشطط عند بعضهم إلى حد الدعوة إلى الزواج المثلي، واعتباره شرعيا، مثل الزواج الطبيعي بين الرجل والمرأة. أعتقد أنه كان على السيدة سوزان جورج، التي أشاطرها الكثير من أفكارها، أن تشير إلى هذه النقطة، وأن تعتبرها أحد أسباب نجاح اليمين وتغلبه على اليسار.

لكن الفصل الممتع واللافت للانتباه في الكتاب هو الذي يتخذ العنوان التالي: «انطفاء الأنوار في أميركا». معلوم أن الحضارة الغربية قائمة على فلسفة الأنوار منذ القرن الثامن عشر؛ حيث خرجت من النظام اللاهوتي المسيحي القروسطي الإقطاعي. وقد تجسد ذلك عمليا وسياسيا من خلال الثورات الثلاث؛ الإنجليزية، فالأميركية، فالفرنسية. والآن يحصل انقلاب على هذا الميراث من خلال انتشار الأصوليات الدينية، وبخاصة في الولايات الجنوبية من أميركا. ومعلوم أن المبشرين البروتستانتيين أصبحوا نجوما تلفزيونيين، لا يقلون خطورة عن شيوخ الفضائيات العربية. ويشتركون معهم في كره العالم الحديث ورفضه جملة وتفصيلا. لكن يبقى هناك فرق بين الطرفين، وهو أن العلمانيين، حتى في أميركا، يتجرأون على فتح فمهم ومواجهة التيار الأصولي الهادر. هذا في حين أنهم أقلية مستضعفة وخائفة في العالم العربي والإسلامي عموما. أما في أوروبا الغربية فسيطرة العلمانيين شبه مطلقة. وهنا يكمن الفارق بين أوروبا وأميركا؛ فعلى الرغم من أن أميركا هي بنت أوروبا كما كان يقول الجنرال ديغول، إلا أن البنت أكثر تدينا من أمها بكثير. وهذا شيء قد نجهله نحن - المثقفين العرب الذين ينظرون إلى الأمور من الخارج. ففي آخر استطلاع للرأي العام تبين أن ستين في المائة من الشعب الأميركي يعتقدون بأن ما قاله سفر التكوين التوراتي عن خلق العالم صحيح حرفيا. هذا في حين أن أربعين في المائة يعتقدون بأنه كلام مجازي رمزي ليس إلا. وبالتالي فلا ينبغي أن نأخذه على حرفيته.. وأما لدى الأصوليين البروتستانتيين الغالبين في الولايات الجنوبية؛ فتصل النسبة إلى تسعين في المائة! تسعون في المائة يرفضون العلم الحديث ونتائجه، وبحوثه عن نشأة الأرض والكون والإنسان.. وهذا يحصل في أرقى بلد في العالم؛ البلد الذي يحتوي على أفضل جامعات العالم ومراكز بحوثه. فما بالك بنا نحن؟ هل نعلم بأن أميركا «سرقت» من أوروبا أكثر من أربعمائة ألف باحث علمي؟ وذلك لأنها تدفع لهم مرتبات ضخمة لا تستطيع جامعات أوروبا أن تدفعها. ليس غريبا إذن أن تحصد أميركا معظم جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء والطب.. إلخ. ومع ذلك فإن المجتمع الأميركي مريض بالأصولية والأصوليين. وإن كنت أعتقد شخصيا أن أصولية الغرب المسيحية ناتجة عن سبب معاكس لأصوليتنا نحن؛ فهي عندهم ناتجة عن تخمة الحداثة أو حتى شططها وانحرافها وعربدتها. وأما عندنا فهي ناتجة عن نقصها وضعفها، إن لم أقل انعدامها.

أخيرا يمكن القول بأن كتاب سوزان جورج هو عبارة عن بحث ميداني في عمق المجتمع الأميركي، والأطروحة الأساسية للمؤلفة يمكن تلخيصها في كلمات معدودات؛ إنها تقول لنا ما يلي: إن سيطرة اليمين على مقاليد السلطة في أميركا لا تنحصر في وجود رجل كجورج دبليو بوش في البيت الأبيض، ولن تنتهي برحيله. وإنما هي نتاج مسار طويل عريض ابتدأ قبل عدة عقود، ومن هنا تأتي صعوبة مواجهته. فقد استطاع اليمين تدريجيا اختراق كل المؤسسات الأميركية والسيطرة عليها، هذا في حين أن اليسار غارق في الفوضى والتفكك والأحلام الطوباوية والنزعة الملائكية. في هذه اللحظة بالذات راح اليمين يتغلغل بكل تصميم وتخطيط منهجي في معظم المؤسسات الأميركية، ويسيطر على المواقع الاستراتيجية في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فالرأسمالية المتطرفة ضربت عرض الحائط بكل قيم التقدم والعدالة الاجتماعية الموروثة عن عصر التنوير. وهمشت بذلك الهموم الاجتماعية للطبقات الفقيرة، وكذلك هموم البيئة والتلوث وما أشبه. وفي الوقت ذاته راحت الأصولية الدينية تستفحل، وبخاصة في الولايات الجنوبية،

وتشكل تيارا خطيرا يهدد قيم التنوير التي بنيت عليها أميركا منذ الثورة الكبرى عام 1776. وهكذا عدنا، أو قل عادت أميركا، إلى الوراء سنوات وسنوات. والسؤال المطروح أخيرا هو التالي: هل سيستطيع رئيس ليبرالي مستنير، كباراك أوباما، أن يعكس التيار؟ ربما. على الأقل فإنه يفعل ما يستطيع. وآخر إنجازاته الكبرى هو تعميم الضمان الصحي على جميع أبناء الشعب الأميركي لكي يشمل الطبقات الشعبية الفقيرة التي كانت تموت بسبب نقص المعالجة أو حتى حرمانها كليا من العلاج بسبب فقرها. إن مجرد وجود شخص كالرئيس أوباما على عرش السلطة في البيت الأبيض يعني أن الأنوار لم تنطفئ كليا من أميركا، وأنه يمكن دحر اليمين الأميركي إذا ما اتفقت قوى التقدم فيما بينها على مشروع تنويري وإنساني معقول.