صلاح عيسى: رحلتي مع الكتاب بدأت بخشية والدي أن أتحول إلى لص

يقرأ حاليا وثائق نادرة لإصدار كتاب عن المفاوضات بين بريطانيا ومصر

صلاح عيسى
TT

إذا كان كاتبا موسوعيا، قدم ما يشبه الموسوعات في تاريخ مصر الاجتماعي، فإنه أيضا قارئا متبتلا يقضي أشهرا بين الجدران، وفي نهاية اللعب تخرج روائع من قبيل «رجال ريا وسكينة»، و«الثورة العرابية»، و«دستور في القمامة»؛ يقول عيسى: إنه بدأ قارئا لأمه؛ فقد كانت أمه لا تقرأ ولا تكتب، لكن تحب الاستماع إلى صوته وهو يقرأ لها كتبا مبسطة للتراث الإسلامي، والسيرة النبوية، وسير كبار الصحابة، إضافة إلى روايات مقتل الحسين عليه السلام.

ويتابع: «تأثرت جدا بقصص التاريخ الإسلامي الثرية بالتفاصيل والدراما، والمعرفة، ثم انتقلت تدريجيا في فترة المراهقة إلى الروايات البوليسية؛ فنحن جيل نشأ في رحاب السلاسل الثقافية، مثل سلسلة «الكتاب الذهبي»، و«روايات الجيب»، وكانت سلسلة «روايات الجيب» في تلك الفترة تصدر روايات بوليسية تتناول شخصية اللص أرسين لوبين أو تؤلفها أجاثا كريستي.. تعلقت بهذه النوعية بشدة لكن أبي كان لديه اعتقاد أن المطالع للقصص البوليسية سيصبح لصا.. فنهاني عن قراءتها واعدا إياي بمنحي البديل».

وبحسب عيسى؛ فإن والده أهداه رواية «القدر» لفولتير، وهي من ترجمة الدكتور طه حسين، وبعد قراءتها هام بها، وتعلق بالروايات عموما، كما وعده الوالد بشراء أي كتاب يريده، مع عدم خصم الثمن من مصروفه. في تلك الفترة قرأ عيسى سلسلة روايات جورجي زيدان عن التاريخ الإسلامي وروايات نجيب محفوظ كلها، وأعمال طه حسين والعقاد وأحمد أمين وغيرهم من أعلام الثقافة في مصر والدول العربية.

يقرأ عيسى في كل مكان وكل وقت، بحسب تعبيره، ولذلك فإن صفحات كتبه غالبا عليها آثار طعام؛ لأنه يقرأ وهو يأكل أحيانا، لكن عندما يستعد لعمل بحثي أو تأليف كتاب يقرأ على المكتب لساعات، وحوله مجموعة من الكروت الورقية لنقل المادة من مصادرها. ويسخر عيسى قائلا: «من بين عاداتي القديمة التي حرصت عليها القراءة أثناء المشي؛ فعندما أشتري كتابا جديدا لا أطيق الصبر حتى المنزل أو المكتب، وأبدأ في تصفحه في الشارع، وعندها أتعرض لسيل من اللعنات مع عبارات (فتح يا أعمي).. (إنت مش شايف يا بني آدم)، وهي جمل تعودت على تلقيها عقب اصطدامي بالمارة».

خصص عيسى جزءا كبيرا من عمره للبحث في التراث والوثائق القديمة وتحقيقها، وهي أعمال تحتاج لقراءات متأنية واطلاع لساعات متواصلة، ويرجع ذلك في جزء منه إلى تكرار فترات سجنه، واعتياده الصمت خلالها؛ فيقول: كان الكاتب الراحل كامل زهيري يقول لي: أنت رجل اعتدت الحبس الانفرادي، وبالتالي لا مشكلة لديك أن تظل لساعات حبيس الجدران بجوار الكتب.

وكان عيسى من المكتشفين الأوائل لمخزن الدوريات بدار الكتب، كان يقرأ فيه طوال اليوم، وبحسب تعبيره، ينسى أحيانا الغرض الذي أوصله إلى هناك، ويكتشف، أثناء الاطلاع على الصحف القديمة، رؤوس موضوعات، وأفكارا لكتب جديدة.

يقول عيسى: فصلني السادات من عملي عام 1973، وبعد ثلاثة أشهر من النضال والاحتجاج، لم أصل لشيء، وضعت همي في القراءة، كنت أذهب يوميا إلى دار الوثائق، وكانت وقتها في قلعة صلاح الدين الأيوبي، لمدة ثمانية أشهر كنت أصعد يوميا للقلعة، وكان نتاج قراءتي واطلاعي كتابي عن الثورة العرابية». يعتبر عيسى القراءة والتأليف مثل اللعب، لا تخلو من المتعة، ولذلك لا يضطر أبدا إلى قراءة كتاب لا يروق له، وبالتالي لا يكتب أبدا عن موضوع لا يمتعه.

يقرأ عيسى الآن وثائق يراها خطيرة ومهمة عن فترة المفاوضات بين بريطانيا ومصر، وهي المفاوضات التي عرفت بـ«صدقي - بيفين»انتهت بمشروع معاهدة 1946 التي رفضها الشعب المصري.

يقول: «لدي حقيبة ضخمة من الوثائق كانت بحوزة المرحوم محمد كامل سليم، وكان سكرتيرا عاما لمجلس الوزراء في تلك الفترة، سلمها لي الصحافي الراحل سامي حكيم، وكان محررا مرموقا للشؤون العربية، وأوصى حكيم أن تنقل مكتبته ووثائقه إلي بعد رحيله، واكتشفت أن وثائق المفاوضات كنز ضخم، وتتفوق على الكتاب الأبيض الذي أصدرته وزارة الخارجية المصرية عام 1954 بشأن المفاوضات ذاتها، ويمكن أن تُخرِج أربعة كتب إضافية».

اكتشف عيسى أثناء بحثه حقيقة غريبة، وهي أن معاهدة 1946، التي رفضها الشعب المصري، لا تختلف في شيء عن اتفاقية الجلاء التي وقعتها مصر بعد ثورة يوليو عام 1954 وأيدها الشعب، وهو أمر أثار تعجبه، وسأل بشأنه خالد محي الدين عضو مجلس قيادة الثورة، فأيد كلامه، ثم فسر له الأمر قائلا: إن الشعوب «تستسمح» الوجوه، وتثق أحيانا في شخص، وتقبل منه ما سبق أن رفضته من غيره، ضاربا مثلا بشعار قديم استخدمه المصريون قديما في المظاهرات، يقول: «الحماية البريطانية على يد سعد زغلول خير من الاستقلال على يد عدلي يكن».