القبول بالتعدّدية الدينية.. والفصل الجزئي بين السياسة والكنيسة

التسامح في زمن الإصلاح الأوروبي

تاريخ التسامح المؤلف: جوزيف لوكلير المترجم: د. جورج سليمان الناشر: المنظمة العربية للترجمة
TT

اقترن موضوع التسامح في زمن الإصلاح بالحرية الدينية، وهو زمن تميز بالانقسامات المسيحية الحادة والسجالات اللاهوتية والفكرية، واتسم بمناخ بعيد كل البعد عن عصر الأنوار العلماني المعادي للإكليروس. لقد كان عصر الإصلاح منطلقا لنقاشات وسجالات عاشتها مجتمعات أوروبا قبل أن تولد فلسفة التنوير وتبتعد هذه المجتمعات عن كابوس اللاهوت والتعصب الديني، الذي شكل استمرارا للقروسطية والعهود القديمة. لقد تفجرت في هذا العصر الانقسامات المسيحية، وطرحت مسألة التعددية الدينية وسطوة الدولة الكنسية، ولم تعد الخلافات محصورة بين الطوائف المسيحية وحدها من اللوثرية والكالفينية والإنجليكانية، وما بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، بل نشأت في القرن السادس عشر حركات متشددة هددت بدورها مواقف الإصلاح برمتها. انطلاقا من واقع التشظي، هذا الذي عرفته الدول الأوروبية، استلهم مفكرو ذلك العصر مسألة التسامح في مواجهة ما كان سائدا من اضطهاد وقمع للحريات ونفي لكل مغاير ديني على قاعدة «إيمان واحد، قانون واحد، ملك واحد». لقد حظيت مسألة التسامح بكبير الاهتمام من قبل كبار المصلحين والمفكرين وكتاب ذلك العصر، واستحوذت على نقاشات وحوارات واسعة في الغرب، وضعت المداميك الفعلية لمسألة التسامح التي امتد تأثيرها حتى يومنا هذا. وقد عالج الأب جوزيف لوكلير أستاذ العلوم الكنسية في الجامعة الكاثوليكية في باريس هذا الموضوع قبل نصف قرن في كتابه «تاريخ التسامح في عصر الإصلاح»، وأعادت طباعته حديثا «المنظمة العربية للترجمة» بدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وترجمه إلى العربية الدكتور جورج سليمان أستاذ الفلسفة في جامعة القديس يوسف في بيروت. يشتمل الكتاب على ثمانية أبواب تتناول مسألة التسامح في عدة دول أوروبية، من بينها فرنسا وسويسرا وألمانيا وغيرها، ويستعرض تطور مسألة التسامح منذ بداية العصور الحديثة ونفوذ الدولة الدينية والصراعات اللاهوتية، متتبعا سير الأحداث الدينية في كل بلد على حدة، مركزا على العهدين القديم والجديد والجهود الأنسنية ونظرية اللوثريين، كما يتناول السجالات حول الإصلاح في فرنسا وسويسرا والإصلاح الإنجليكاني والانقسامات والصراع من أجل الحرية الدينية.

لقد كانت مسألة التسامح مع غير المؤمنين هي جوهر النقاش في تلك الفترة، أو بالأحرى التعددية الدينية وإمكانية السماح من قبل اللاهوتيين الكاثوليك بوجود ديانتين أو أكثر، أو السماح بوجود ديانات أخرى في مملكة مسيحية واحدة. وكما هو معلوم فقد كان يوصف كل من هم من الديانات الأخرى بالهراطقة والخطأة واللاأخلاقيين، وكانت هذه الصفات وليدة المرحلة الوسيطية التي وصفت «بزمن التشدد الخالي من أي بارقة تسامح»، إذ لم يشهد تاريخ المسيحية القديم أساليب اضطهاد وعنف مماثلة ضد الهراطقة، وأنشئت في القرن الثالث عشر محكمة تفتيش بغرض فرض الوحدة الدينية، وباتت القوانين المدنية والكنسية تعاقب بالإعدام حرقا ضد الهراطقة. وفي العصر الوسيط أيضا أصبح المسيحيون يرفضون الاختلاط بالوثنيين في مجتمع سياسي واحد على غرار ما كان عليه الحال في العصور القديمة. أما في القرن السادس عشر فقد تطورت مسألة التسامح إلى مناقشة لاهوتية كبرى وانسحبت على القضايا السياسية، إذ كانت مهمة الدولة في الشؤون الدينية من جملة الموضوعات التي طرحت للنقاش.

لقد كانت الأولوية بالنسبة إلى مفكري القرن السادس عشر هي تكريس فلسفة التسامح وليس الحرية الدينية بحسب مؤرخنا لوكلير، إذ كان العلمانيون في تلك الفترة ورجال الإكليروس متمسكين بوحدة العقيدة والعبادة، وكان الجدل دائرا حول السماح بانتشار الهرطقة وتكون عبادة منشقة. أما في عصرنا الحالي فالجدل يدور حول الحرية الدينية بسبب انتشار العلمانية على نطاق واسع. لقد بدأت التسويات على المستوى العقائدي عقب النزاعات الدينية تتبلور، إذ سعى البروتستانت القلقون بسبب انقساماتهم المتزايدة إلى التوحد والتسامح على قاعدة بعض الاعتقادات الأساسية، بينما وجهت دعوات إلى تأسيس التسامح على إعلان مشترك لقواعد الحياة المسيحية بشأن التنوع الوافر من العقائد. كذلك انبرى إعلاميو القرن السادس عشر في الدفاع عن المنافسة الحرة بين الطوائف، على قاعدة أنه إذا ما تواجهت الحقيقة والضلال فإنه يستحيل أن تخرج الحقيقة مهزومة من التجربة.

لقد ظهرت فكرة الفصل الجزئي بين الوحدة الدينية والوحدة السياسية في فرنسا نحو عام 1560، وشكلت خلفية أيديولوجية للسياسيين حتى زمن ريتشيلو، وكان الهدف الأساسي منها هو الابتعاد عن الحروب الدينية. لقد بقيت الديانة الكاثوليكية هي ديانة المملكة، لكن الانضمام إلى العبادة الرسمية لم يعد شرطا واجبا على جميع الرعايا. كما اكتسبت الوحدة السياسية طبيعة مغايرة للوحدة الدينية باختلاف الغايات الأرضية والزمنية، فلم تعد السلطة السياسية تنجر إلى الصراعات الدينية وإنما انحصرت مهامها في السهر على السلم الأهلي والمصلحة العامة.

لقد سلمت هذه الدول بطوائفها المتناحرة وفرقها المتنوعة للتسامح، استنادا إلى مبررات عدم جدوى القوة في ردع الضالين، وأخرى مستوحاة من الكتاب المقدس كالصبر والمحبة وغيرهما من الأسلحة الروحية في مسعى لتجنب الوسائل العنفية الجسدية. لقد كانت فرنسا التي عاشت إلى زمن غير قليل تحت وطأة النزاعات الدينية، سباقة إلى احتضان التوجهات الجديدة، في حين لم تجارها على المستوى نفسه دول أخرى، مثل إيطاليا وإسبانيا اللتين بقي الإصلاح فيهما نسبيا، إضافة إلى أن رسم الحدود بين سويسرا وألمانيا، وتحديدا ما بين دول كاثوليكية وأخرى بروتستانتية، لم يفتح الباب أمام نقاشات عميقة حول هذه المسألة.