قصيدة النثر ألغت الشفوية في الشعر العربي

دراسة تونسية عن «الخطاب الواصف في الشعر العربي»

«وجوه النرجس... مرايا الماء». المؤلف: محمد العزي. الناشر: «دار مسكيلياني للنشر»، تونس.
TT

الشاعر التونسي محمد الغزي المعروف بقصائده ذات المنحى الصوفي، أصدر أخيرا عن «دار مسكيلياني للنشر»، بحثا مخصوصا تناول فيه ما سماه بالخطاب الواصف في الشعر العربي واضعا لهذه الدراسة عنوانا شعريا جذابا هو: «وجوه النرجس.. مرايا الماء».

في هذه الدراسة التي امتدت على قرابة 360 صفحة، عالج الغزي تجليات الخطاب الواصف في الشعر الغربي وفي القصيدة الحديثة، وفي الشعر العربي القديم دون أن يغفل عن الشعر الإحيائي والشعر الرومنطيقي، منتهيا إلى وقفة علمية نقدية عند خصائص القصيدة الواصفة. ولقد نهضت هذه الدراسة على مجموعة من الأسئلة النقدية ذات المشروعية وهي:

- ما الذي يسوّغ انتشار الخطاب الواصف في مدوّنة الشعر الحديث؟

- وأي أثر تركه هذا الخطاب في بنية القصيدة الحديثة، وفي لغتها، ومجمل رموزها؟

- وإلى أي حدّ يمكن أن نعتبر «القصيدة الواصفة» نوعا شعريّا له خصائصه الفارقة؟

- وأيّ علاقة تصل هذه القصيدة بالخطاب النّقدي؟

- وهل يمكن أن نهيب بـ«الخواطر النقديّة» التي تتضمنّها لفضّ مغالق القصيدة الحديثة وتبديد غموضها؟

- وهل هذه القصيدة تشير إلى أزمة القصيدة الحديثة تنكّر لها المتقبّل فاحتاجت إلى التّحدث عن نفسها وإبراز خصائصها؟

يرى الغزي أن الحداثة ضرب من «الوعي الضدي» الذي يجعل الشاعر منتميا إلى عصره، متمردا على قيمه مشدودا إلى زمنه، غير مذعن إلى محتواه.

ومن هذا المنطلق، بسط منذ الصفحات الأولى من كتابه مقاربته لمفهوم الحداثة في هذه النقاط الثلاث:

- إن الحداثة هي قبل كل شيء وعي بالزمن، بحركيته، وبتحولاته. وهي، في الوقت ذاته، انتماء إلى قيمه المتغيرة التي تصل الحاضر بالمستقبل.

- على المستوى الشعري، الحداثة هي، وكما ذهب إلى ذلك أدونيس، رؤية جديدة، وهي جوهريا، رؤية تساؤل واحتجاج، تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد. ويتجلى ذلك في تجاوز الأشكال المتوارثة، والخروج عن طرق التعبير المستقرة والبحث عن كتابة جديدة تستوعب لحظتها التاريخية وتتخطاها في آن.

- الحداثة حداثات. فلكل شاعر حداثته المخصوصة التي تنصح عن تجربة مع الزمن، واللغة والعالم. فهي، بهذا المعنى، انبثاق من الداخل، تعبير عن معاناة ذاتية، أما استنساخ الحداثات الأخرى فهو ضرب من الاستلاب والموت. وهو إلى ذلك نقض لمفهوم الحداثة نفسه.

ورأى الغزي أن عدة نقاد درسوا الشعر الحديث واستقرأوا خصائصه الفنية والجمالية لكنهم تنكبوا عن قصيدة النثر فلم يدرجوها ضمن المدوّنة التي درسوا، وربما تمحّلوا الأسباب للغض من شأنها والتهوين من قيمتها. هؤلاء النقاد، وهم يستبعدون هذه القصيدة، إنما يلغون جزءا مهما من مدونة الشعر المعاصر. وبرأيه، إن قصيدة النثر، وهي تقوض آخر مراسم الشفوية في الشعر العربي الحديث، أي الوزن والقافية، إنما تدفع الشاعر إلى البحث عن مصادر شعرية جديدة، وعن آفاق جمالية مختلفة، لهذا تعد حسب منجز الدراسة بمثابة «مختبر شعري» من خلاله يسعى الشعر العربي إلى تجريب أشكال وأساليب جديدة.

وتأسيسا على تحليل الباحث لكثير من النقاط والظواهر الجمالية، اعتبر أن الخطاب الواصف ينهض بوظيفتين اثنتين متعاضدتين: وظيفة الإبداع، ووظيفة التأمل في الإبداع.

الوظيفة الأولى تتوسل بلغة ذات طبيعة تخيلية، أما الوظيفة الثانية فتتوسل بلغة ذات طابع تصوري، وهاتان اللغتان تتداخلان، على تنافرهما، في الخطاب الواصف لتشكلا، في آخر الأمر، لغة واحدة هي لغة القصيدة الحديثة. من جهة أخرى فإن القصيدة الواصفة بناء على دراسة الغزي قد استضافت لغة المفاهيم والمصطلحات وأتاحت للشعر أن يتأمل ذاته في مياه اللغة، فأسهمت، بذلك، في نقل أسئلة الشعر من خارج القصيدة إلى داخلها، وأسهمت في استبدال الأسئلة الاجتماعية والأيديولوجية، التي كانت تستبد باهتمام القصيدة بأسئلة الكتابة وقضايا الشعر.

لكن القصيدة الواصفة، والاستدراك للمؤلف، ليست مجرد رسالة تنطوي على رؤى الشاعر النقدية فحسب، وإنما هي قبل كل شيء خطاب شعري، تشدّنا دواله إلى حضورها الذاتي قبل أن تشدنا إلى شيء آخر خارج عنها. ويعد هذا الاحتفاء بالدال في القصيدة الواصفة ملمحا مهما من ملامح شعرية الحداثة. هذه الشعرية التي تعتبر الكلمة كما ذهب إلى ذلك عبد الغفار مكاوي «الفعل الخلاق للروح وأن من تمام حريتها أن تسلخ عن مرجعيتها» وتترك لحركاتها الخالصة التي توجهها كيف تشاء أن تبعث إيقاعاتها وإيحاءاتها.

إن هذا الازدواج في طبيعة القصيدة الواصفة بوصفها كتابة وتأملا لتلك الكتابة من شأنها أن تستدرج القارئ للإسهام في صوغ معانيها وتأويل رموزها. فاللغة فيها ليست أداة توصيل شفافة أو حيادية وإنما هي بمثابة الزجاج الذي تملؤه الصور وتغطيه الألوان فيشد الانتباه إليه بقدر ما يشده إلى ما وراءه.

ولاحظ الغزي أن القصائد الواصفة التي درسها والتي تحمل إمضاءات الشعراء نزار قباني وأدونيس وجبرا إبراهيم جبرا وصلاح عبد الصبور وسعدي يوسف ومحمود درويش وشوقي بزيع، لم تكن متماثلة متطابقة، فلكل شاعر، كما أوضح بحثه، قصيدته الواصفة التي تختلف في لغتها وطبيعة أسئلتها عن بقية القصائد الأخرى.

لا شك أن هناك عناصر ثابتة تنتظم هذه القصائد وتجعلها متقاربة على تباعدها، لكن هذه العناصر لم تتمكن من طمس وجوه الاختلاف التي تفرق بينها. فالقصائد الواصفة قد تنوعت بتنوع الشعراء، وتعددت بتعدد تجاربهم. لهذا لم تكن العلائق التي انعقدت بينها علائق توافق وانسجام بقدر ما كانت علائق توتر واختلاف. فالبحث قد أوضح أن القصيدة الواصفة كانت بمثابة مختبر شعري عملت كل النصوص الإبداعية والنظرية التي تفاعلت داخله على تأسيس خطاب شعري حديث يسهم في توسيع معنى الشعر أي يسهم في توسيع معنى المعرفة.