هجمة عالمثالثية على المتاحف الغربية لاسترداد الآثار المنهوبة

مقاومة أوروبية بالقوانين الداخلية الصارمة والحجج المدروسة

TT

الدول النامية تستفيق مطالبة بآثارها المنهوبة. وقد شهدت السنوات الخمس عشرة الأخيرة فورة طلبات لافتة وجهت لدول غربية لإلزامها بإعادة ما سرقته من دول استعمرتها. وتعتبر الحملة المصرية، واحدة من أقوى هذه الحملات وأبرزها إعلاميا. لكن الصين والمكسيك والبيرو وكوريا الجنوبية، مثلا، تستخدم لاسترداد آثارها وسائل لم تكن معهودة سابقا. كيف استيقظت الأمم من غفلتها، وكيف يقاوم الغرب هذه الفورة العالمثالثية؟

لجنتان خاصّتان وتقرير من 300 صفحة وأربع جلسات برلمانية، كانت ضرورية لتلبية طلب ينتظر منذ أكثر من عشرين سنة. فقد صادق النّواب الفرنسيون في الخامس من مايو (أيار) الجاري على القانون الذي يسمح لمتحف مدينة رووان بإعادة مجموعات أثرية نادرة كانت نيوزيلندا تطالب فرنسا بإعادتها منذ أكثر من عشرين سنة، وهي رؤوس محنّطة لقبيلة بدائية تسمى «ماؤوريه».

خبر الموافقة على إعادة هذه التحف الأثرية وإن لم يشغل حيزا كبيرا من صفحات الجرائد إلا أنه يستحق الاهتمام، وقد يعتبر سابقة أولى، على اعتبار أن المتاحف الفرنسية والغربية عامة، تواجه طلب الدول النامية باسترداد آثارها المنهوبة بالرفض القاطع منذ أكثر من أربعين سنة.

والمعروف أن معظم هذه الكنوز الأثرية، قد تّم الاستيلاء عليها إبان الحملات الاستعمارية الأوروبية الكبرى لأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية الممتدة بين 1798 لغاية الحرب العالمية الأولى، وقد ترافقت معظمها بعمليات نهب وسطو كبيرة للثروات الحضارية لهذه الدول. فحملة نابليون بونابرت لدول المشرق العربي عام 1798 كانت قد شهدت، وبخاصة في مصر، تهريب علماء الآثار لكثير من التحف الأثرية إلى المتاحف الباريسية. كما يعتقد أن المتاحف الغربية كونت جزءا مهما من كنوزها بفضل ازدهار التجارة غير الشرعية للتحف الأثرية. وقد كان خبراء من اليونسكو، قيّموا هذه السوق السوداء بأكثر من 5 مليارات يورو، مما يضعها في المرتبة الثالثة بعد تجارة الأسلحة وتجارة المخدرات. وتعتبر المناطق التي تشهد حروبا ونزاعات مسلحة، أرضية خصّبة لمثل هذه العمليات، حيث تعّرض «متحف كابل» للنهب عدة مرات، وكذلك الحال بالنسبة للعراق الذي تعرض متحف آثاره الوطني ببغداد للنهب الكامل في العاشر من أبريل (نيسان) 2003، بعد يوم واحد من دخول القوات الأميركية، وسرق منه أكثر من 14.000 قطعة أثرية لم يتم العثور لغاية اليوم إلا على 4000 منها. وكانت خبيرة الآثار والصحافية جوان فرشاك قد نقلت آنذاك صورة عن نهب موقع «تلّ جوخا» بعد دخول الأميركيين واصفة إياه «بساحة المعركة الحقيقية». كما تعتبر كمبوديا من أكثر الدول الآسيوية تضررا من هذه المشكلة، فكثيرا ما لجأت فصائل عسكرية متنازعة إلى بيع قطع أثرية تاريخية لشراء الأسلحة، مما جعل الكثير من القصور ومعابد «أنغور» العريقة تتعرض للتلف والاندثار.

المفارقة الغريبة هي أنه في الوقت الذي تعج فيه المتاحف «العالمية» بالآثار الفنية النادرة حتى تضطر لوضع جزء كبير منها في المخازن لنقص المكان، تفتقد الدول النامية للشواهد والآثار التي تعبر عن هويتها وتاريخها وتراثها المّمتد على مّر آلاف السنين. حيث تزخر كثير من المتاحف الغربية اليوم ابتداء من متحف «كي برنلي» للحضارات البدائية إلى متحف «الفن الأفريقي» بواشنطن مرورا بـ«البريتش موزيم» البريطاني و«الدهلم موزيم» بألمانيا بمجموعات قيّمة ونادرة من بقايا الحضارات البدائية قي أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وإن كانت الدول الغربية لا تنفي شرعية مطالب الدول النامية في استرجاع ممتلكاتها وآثارها فإنها تدافع عن موقفها بعدة حجّج أهمها العائق القانوني: فالمتاحف الغربية التي لا تريد أن تفرط بهذه الكنوز التي تملأ متاحفها وتصنع مجدها وشهرتها، قامت فور الاستيلاء عليها بإحاطتها بسلسلة من القوانين الصارمة لكي تعزز نفوذها عليها. قانون التراث الوطني الفرنسي الخاص بالمتاحف مثلا ينّص في مادته 451 - 5 على أن «ممتلكات المتاحف الفرنسية تابعة للمال العام ولا يمكن التّصرف فيها بأي حال من الأحوال»، مستعملة عبارة inaliénables. وهو ما يعني أن المتاحف حتى وإن قبلت إرجاع بعض التحف إلا أن ذلك يبقى خاضعا لإجراءات «إلغاء التصنيف». وهي إجراءات معّقدة وطويلة حتى يتّم إخراج هذه الممتلكات من إطار المال العام وتسليمها لطرف آخر. المتاحف الغربية تتذرع بحجة ثانية، وهي الوضعية السيّئة التي توجد عليها متاحف الدول النامية ونقص الوسائل المتاحة لها للمحافظة على ممتلكاتها وحمايتها من الاندثار والتلف. وهنا يذكر أنصار هذا المعسكر بعدة حوادث سرقة تعرضت لها المتاحف الأفريقية كحادثة سرقة «متحف نيجيريا» الذي اختفت منه عدة قطع نادرة ذات قيمة كبيرة، وكذلك «متحف زائير» الذي تّم نهبه عدة مرات. كما يرّكز هؤلاء على الطابع «العالمي» لمتاحفهم فـ«اللوفر» و«متروبوليتان» و«البريتش موزيم» كلها مؤسسات عريقة توجد في أكبر المراكز العالمية، مما يخولها مهّمة نشر الثقافة والفنون على نطاق واسع وإفادة أكبر قدر ممكن من الأشخاص، وهو ليس وضع متاحف دول الجنوب الصغيرة التي توجد في مناطق نائية ضعيفة الإشعاع ومعظمها مؤسسات تفتقد للخبرة والمهارة والوسائل المادية. ورغم إصرار المتاحف الغربية على مواقفها فإن الملاحظ الآن هو ارتفاع عدد طلبات الاستعادة في الخمس عشرة سنة الأخيرة بصورة ملحوظة، وبشكل قد يُفضي إلى ظهور خارطة جديدة لتوزيع التراث الثقافي العالمي. الطلبات أصبحت أكثر إلحاحا الآن، لأن بعض الدول شدّدت أيضا من لهجتها إزاء المتاحف الغربية وأصبحت تظهر صرامة شديدة في التعامل مع هذه القضية، مستعملة أحيانا لهجة التهديد وهي حال دول كمصر التي قام الأمين العام للمجلس الأعلى لآثارها زاهي حواس بتنظّيم ندوة في السابع والثامن من أبريل الماضي لدعوة دول الجنوب لتكثيف جهودها من أجل المطالبة بعودة كنوزها التاريخية. وكان هذا الأخير قد نجح في إعادة قطع لخمس لوحات جدارية أثرية تعود للعهد الفرعوني إلى مصر بعد أن هددّ بتعليق تعاون بلاده مع «متحف اللوفر». وهو القرار الذي كان له وقع كبير، كونه أول إجراء صارم تتخذه مصر مع مؤسسة كبرى بمستوى متحف اللوفر. علما أن خبير الآثار المصري يقود منذ مدة حملة كبيرة لاستعادة آثار بلاده الموجودة في المتاحف الغربية، وهو يحاول استعادة حجر الرشيد من بريطانيا وتمثال الملكة نفرتيتي الموجود بمتحف برلين. أما اليونان التي رفضت بريطانيا تسليمها «رخام البانتيون» الذي تطالب به منذ سنوات، فقد ردّت للتعبير عن سخطها على المتاحف الغربية برفض إعارة «اللوفر» تمثال «براكسيتال» سنة 2007.

والظاهرة قد تزيد أهمية حسب رأي جان جاك نويير المحامي المختّص في التراث الثقافي، والذي يضيف أن الحديث عن عودة الآثار أصبح الآن أكثر إلحاحًا من السابق في أروقة اليونسكو، مذكرا بأن 120 دولة قد وقعت معاهدة اليونسكو لمنع الاستيراد أو التوريد أو النقل غير الشرعي للملكيات الثقافية، ولافتا الانتباه في نفس الوقت إلى أن ارتفاع عدد المحامين هو مؤشر رمزي لهذه الوضعية. لكن الجديد، يتابع المحامي، هو أن بعض الدول الناشئة التي تعرف نموا اقتصاديا ملحوظا، أصبحت تملك الوسائل المادية لدخول معركة مفتوحة مع الغرب ولم تعد تكتفي برسائل الدبلوماسيين ولا بوساطة اليونسكو أو تدخل الإنتربول، بل باتت تعتمد وسائلها الخاصة لضمان استرداد ممتلكاتها الأثرية: من بوليس متخصّص في الآثار، وفرض رقابة شديدة على الحدود، إلى سّن القوانين الصّارمة لمعاقبة تجّار الآثار والمهّربين وتخصيص مبالغ طائلة لإعادة شراء التّحف التي تعرض في المزّادات العلنية، أو فرض ضغوطات اقتصادية ومادية.

يقارن المؤرخ ستيفان بوميان المساعي الحالية لهذه الدول بتلك التي أُطلقت ابتداء من 1990 من أجل استرداد التحف التي سرقت من العائلات اليهودية إبان الحرب العالمية الأولى والثانية. كانت هذه الحملة الكبيرة قد نجحت في الوصول إلى أهدافها حيث تّم العثور على 60.000 قطعة سرقها النازيون وتم إرجاعها إلى أصحابها. بعض هذه التحف ذات شهرة عالمية كلوحة الرسام ماتيس «الجدار الوردي» و«بورتريه أديل بلوك بويير» للرسام كليمنت.

فالمكسيك مثلا تلجأ إلى تأجير محقّقين أحرار. وكان هؤلاء قد طالبوا بتدخل الشرطة الفرنسية لمنع بيع قطع أثرية من زمن الحضارة الاستيكية صيف سنة 2008 في مزاد «دروو» الشهير. البيرو تمّكنت سنة 2008 بفضل تحقيقات شرطة متخصّصة من استرداد 300 قطعة أثرية من المٌجمّع الأميركي ليوناردو باتريسون. أما كوريا الجنوبية التي قيّمت إدارتها العامة للتراث الثقافي عدد التحف الموجودة في أكثر من 20 دولة غربية بـ75.000 قطعة، فقد تمكنت لغاية الآن من استرجاع نحو 7466 قطعة عن طريق شرائها. على أن المتاحف الغربية تبقى متخوفة أكثر من الصين بسبب ثقلها الاقتصادي الذي بات يسمح لها باستعمال الضغوط اللازمة لاسترداد ممتلكاتها. وكانت هذه الأخيرة قد بعثت سنة 2009 أكثر من ستين خبيرا إلى وجهات مختلفة لإحصاء وجرد آثارها الموجودة في المتاحف الغربية، وهو الخبر الذي علّق عليه جوليان أونفرنس، المدير العام للمجلس الدولي للمتاحف بقوله: «الأمر يقتصر اليوم على مجرد جرد للممتلكات الأثرية، لكن من يعلم، فقد تتحول غدا إلى طلبات استرداد..». وقد بدأت الصين فعلا بإرسال إشارات واضحة للدول الغربية، عندما حاولت في مزاد علني سنة 2009 عرقلة عملية بيع تمثالين كانا ملكا لـ«بيار برجي»، رجل الأعمال الفرنسي الشهير، ويعتقد أنهما سرقا سنة 1860، إثر دخول الجيوش الفرنسية والبريطانية للصين. كما نظمت الصين أخيرا معرض «شنغهاي الدولي» الذي استقبل أكثر من ثلاثة ملايين زائر في رسالة واضحة للغرب بأنها حاضرة بقوة في المجال الفني والثقافي أيضا، وأنها ستعمل مستقبلا على تقوية العلاقة بين الثقافة والاقتصاد. وإن كان الأفريقيون من بين أوائل المنّددين بنهب الدول الاستعمارية للكنوز التاريخية فإن موقفهم العام، أصبح يتسم الآن بكثير من العقلانية والرضوخ للأمر الواقع. وهم لا يطالبون بعودة هذه الكنوز على اعتبار الوضعية المُزرية التي توجد عليها مؤسساتهم المتحفية، إضافة إلى نقص الوسائل المتاحة للحفاظ على الآثار وصيانتها من التلف. وكان صموئيل سيديبي، المدير العام للمتحف الوطني في مالي قد عبّر عن هذا التوجه بقوله: «أدعو المتاحف الكبرى إلى التحاور، ولندع قضية رجوع الآثار إلى ما بعد..». هذا على الرغم من أن اليونسكو قد قيّمت نسبة آثار مالي الموجودة في المتاحف الغربية بـ95 في المائة من مجموع هذا التراث الثقافي.

على أن القضايا العالقة التي تعكر صفو العلاقات بين الدول الغربية والدول النامية لا تزال كثيرة، أهمها: خلافات مصر مع بريطانيا وألمانيا، ولكن أيضا قضية كوريا الجنوبية التي تطالب فرنسا بإرجاع أرشيفها الملكي المعروض حاليا في المكتبة الوطنية (فرنسوا متران). وهي القضية التي أثارت الكثير من الجدل وبخاصة وأن فرنسا كانت قد وعدت كوريا الجنوبية بتلبية طلبها مقابل شراء قطار الـ«تي جي في» قبل أن تخلف وعدها. وقد كان المؤرخ إدوارد غليسان قد نقل حكاية طريفة عن الرئيس متران الذي أخذ معه مخطوطة صغيرة من هذا الأرشيف في زيارة رسمية لكوريا الجنوبية، وحين شاهد فرحة الرئيس الكوري بها قرر إهداءه المخطوطة، فما كان من أمين المتحف الذي كان يرافق الرئيس إلا أن أغمي عليه من هول المفاجأة.

وسواء بتدخل من اليونسكو أو بتراضي طرفي النزاع، فإن كثيرا من الدول الغربية انتهى بها المطاف إلى تلبية بعض الطلبات، علما أن اليونسكو تقوم بنشر قائمة سنوية لكل الآثار والتحف التي استردت وأشهرها قضية إرجاع إيطاليا سنة 2008 لـ«مسلة إكسوم» التي كانت قد سرقت من إثيوبيا سنة 1937، كما قامت فرنسا بإعادة كثير من القطع الأثرية لأوطانها الأصلية: أعادت لنيجيريا مجموعة من بقايا حضارة بدائية كانت موجهة للعرض في متحف «كي برنلي» الباريسي سنة 2000 تبيّن أنها أخذت من عمليات حفر غير مشروعة. كما سلّم الرئيس شيراك سنة 2003 نظيره الجزائري ختم «الداي حسين» والي الجزائر الذي استولت عليه فرنسا أثناء فترة احتلالها للجزائر، وأعادت لمصر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قطعا أثرية من تابوت ملك مدفون في وادي الملوك بالأقصر.