10 سنوات على رحيل عبد العزيز مشري.. و«ريح الكادي» ما زال عابقا و«جاردينيا» ما زالت تتنفس

نقاد وأدباء سعوديون يستذكرون الأديب الذي دوّن ذاكرة القرية

محمد العلي
TT

بعد عشرة أعوام على رحيله، لا تزال أعمال الروائي السعودي عبد العزيز مشري تمثل علامة فارقة في مسيرة الأدب القصصي والروائي السعودي. وكان المشري الذي رحل في السابع من مايو (أيار) 2000 أحد أكثر الأدباء السعوديين الذين التصقوا بالقرية، مجسدا نبضها في أعماله الأدبية رغم صخب المدينة حوله، كما كان مشري أبرز من كتب عن طبيعة الحياة في القرية الجنوبية خاصة؛ حيث نقل عبر تجربتيه الروائية والقصصية منظومة العادات والقيم والمكونات الحضارية لهذه القرية في أعماله، كما استوحى طبيعة إنسانها ومزاجه وحسه الإنساني.

ورغم معاناته القاسية مع المرض، هو الذي ولد معتل الجسد، تمكن مشري أن يحول معاناته الجسدية إلى وقود للإبداع، وركز تفكيره واهتمامه على الكتابة، وبقدر ما كان الموت يتجه نحوه بشراسة، خاصة بعد أن أصيب بالفشل الكلوي، وبعدها بالغرغرينا وبتر قدميه، إلا أنه ظل متشبثا بالحياة، وازداد عشقا لها. وقصصه التي كتبها في مثل هذه الظروف خلت تماما من الضجر والألم والتشكي، أو الاستسلام واليأس، كما في قصته «جاردينيا تتثاءب في النافذة» حيث نجح في التقاط صور مفعمة بالألم تارة والأمل تارة أخرى كما نجح في رسم ملامح الحياة بعيون المريض الذي يستلقي على سرير الغسيل الكلوي وينظر لدمائه تنزف داخل أنابيب الغسيل.

ويشعر القارئ لهذه المجموعة بوجع القاص ولكنه ينجذب أكثر لثيمة إنسانية متمردة ترفض أن يحجبها الألم أو يداريها المرض، فتراه يستشعر وهو على السرير آلام طفلة في الجوار، ويبعث الامتنان لمخترع البنج باعتباره «مخدر أوجاع البشرية».

ولد الأديب عبد العزيز صالح محمد مشري الغامدي (عبد العزيز مشري) في قرية صغيرة من قرى الجنوب السعودي تسمى «محضرة» بمنطقة الباحة عام 1953 وعاش فيها طفولته وتشبع من تقاليدها، لكنه اضطر بدافع الحاجة للعمل وإثبات الذات للخروج منها إلى المدينة. وبدت القرية في أعماله اللاحقة وكأنها تسكن داخله بكل تقاسيمها وتضاريسها، وحتى اللوحات الفنية التي كان يرسمها وهو الفنان في تلوين مساحات الرؤية البصرية بلوحات معبرة تستنطق المعاني الإبداعية التي يفرغها في رواياته وقصصه، كانت تلك اللوحات تشير إلى عنفوان القرية في داخله.

في بداية العشرينات من عمره عمل في الصحافة السعودية، وشارك عام 1975 في تحرير ملحق «المربد» ذائع الصيت الذي كانت تصدره جريدة «اليوم» في الدمام، وخلال تلك الفترة عرف بغزارة إنتاجه، وكان يسابق الوهن والضعف والمرض الذي كان يغزو أطراف وأجزاء جسده، فأصدر كثيرا من الدراسات الأدبية، فقدم للساحة الثقافية عدة أعمال أدبية كان أولها «المنتخب من أدب العرب»، في حين كان أول أعماله القصصية «موت على الماء» وقدم كذلك «أسفار ابن السروي» و«زهور تبحث عن آنية»، ورواية «الحصون»، و«جاردينيا تتثاءب من النافذة»، ورواية «الغيوم ومنابت الشجر».

وتميز بغزارة الإنتاج وتنوع الاهتمامات حيث صدرت له: «باقة من أدب العرب»، وهو عبارة عن مختارات تأسيسية من نصوص التراث العربي، كما صدر له «مكاشفات السيف والوردة» وهو كتاب يضم سيرته الإبداعية والثقافية.

وصدرت لمشري روايات هي «الوسمية»، و«الغيوم ومنابت الشجر»، و«ريح الكادي»، و«الحصون»، و«في عشق حتّى»، و«صالحة». وترك بعد رحيله مجموعة من المخطوطات، بينها رواية بعنوان «المغزول»، و«القصة القصيرة في المملكة» وتتضمن بعض مشاهداته وتأملاته عنها، ونصوصا شعرية بعنوان «ترنيمة»، كما ترك عددا كبيرا من اللوحات الزيتية والرسومات المخطوطة بالحبر.

ولم يتوقف إبداع مشري عند أدب القصة بنوعيه؛ فقد امتلك موهبة الفن التشكيلي؛ وقد قام بتنفيذ الرسوم الداخلية للمجموعة الشعرية الأولى للشاعرة فوزية أبو خالد «إلى متى يختطفونك ليلة العرس» وبعض أغلفة مجموعاته القصصية ورسوماتها الداخلية.

في السابع من مايو (أيار) عام 2000 ودع الأديب المشري، «ريح الكادي» و«غاردينيا» وغادر بعد معاناة طويلة مع المرض، مسدلا الستار على حياة عامرة بالإبداع، لا شك أنها ستصبح محطة يتوقف عندها الباحثون عن مسيرة وتطور الأدب السعودي.

خلال الشهر الحالي، بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، عمل «أصدقاء الإبداع» وهم نخبة أدبية التصقت بمشوار عبد العزيز مشري وتجربته الفنية، على تكريمه في ذكرى رحيله، وكان لافتا الحضور الفكري والثقافي والأدبي المتنوع، الذي شارك في قراءة تفاصيل الحياة الأدبية لمشري.

من بين الذين تناولوا أدبه بالدراسة الناقد الدكتور محمد صالح الشنطي، والدكتور معجب الزهراني، والدكتور حسن النعمي، والدكتور يوسف نوفل، وعابد خزندار، وأحمد بوقري، وحسين بافقيه، ومعجب العدواني، وعبد الحفيظ الشمري، والدكتورة فوزية أبو خالد، وحسن السبع، وفايز أبا، بالإضافة لرفيقي دربه علي الدميني، ومحمد الدميني. أمسية تكريم مشري نظمها «أصدقاء الإبداع» واستضافها الكاتب المعروف نجيب الخنيزي.

* العلي: موهبة عفوية

* الشاعر السعودي محمد العلي اعتبر أن كلمة الدخول لعالم عبد العزيز مشري هي (المختلف) «من حيث إنه لم يدخل إلى حقول الإبداع عن طريق أكاديمي أو تعليمي.. فهو قد دخل عنوةً وأثمر أفضل من كثير من الأكاديميين».

وقال العلي إن مشري مثل دور «المقاوم فقد كانت الكآبة تزأرُ من حوله.. ولكنه غض سمعه عنها وراح بمرح معاند يسخر بأمراضه متراكمة تنوء بها أشد الإرادات صلابة وتفاؤلا بحيث تظن ظنا صلبا أن المتنبي كان يقصده حين قال: وإذا كانت النفوس كبارا/ تعبت في مرادها الأجساد».

وأضاف: «كانت طاقات المشري تنبع عفويا من اتساع موهبته، فهو عازف عود وهو فنان تشكيلي وهو روائي ولم يكن أي من هذه الفنون يستوعب نشاطه أو يشغل طموحه عن التفكير في الأمام دوما.. لا أذكر أن المشري خلال أحاديثنا اليومية طرح قضية حياتية عادية أو هما ذاتيا، كان دائما يطرح السؤال عن المفاهيم: من هو (اللامنتمي) من هو الملتزم.. ما هو الالتزام؟ إن هذا الأسلوب في التفكير يدل على وعي متجاوز للقبول بالنظر إلى سطوح الأشياء، إنه يبحث عن المعرفة القريبة من الحقيقة، إن لم تكن الحقيقة نفسها».

* فوزية أبو خالد: المرأة في أعماله

* الناقدة الدكتورة فوزية أبو خالد، قدمت ورقة عمل بعنوان «النساء في كتابة عبد العزيز» قالت فيها: «في ضوء مراجعة تحليلية لأعمال مشري يمكن أن نستخلص ثلاثة من العوامل التي أثرت بتداخل أو كل على حدة على تحديد موقع الأنثى في أعماله من خلال هوية وموقع وصفة نساء يدخلن في تكوين النسيج العضوي للمجتمع كجزء نشط ومدغم في الجماعة وليس بهويتها الشخصية أو صفتها الفردية بما في ذلك موقع الأنثى في رواية (صالحة). وهذه العوامل هي:

1 - البطولة الجماعية لشخصيات معظم أعمال عبد العزيز المشري الروائية والقصصية بما فيها شخوص النساء.

2 - طبيعة التاريخ الاجتماعي لموقع المسرح السردي للبيئة القروية وموقع النساء الرجال التعاضدي فيها التي قام عبد العزيز بإعادة إنتاجها إبداعيا.

3 - الطبيعة المحافظة للمؤسسة الاجتماعية ولسلطاتها القيمية وتفادي الاصطدام بها».

وتضيف أبو خالد: «أزعم أنه لولا المكر الإبداعي الذي تعامل به عبد العزيز مع هذه العوامل ومنها الذاتي كاختياره للبطولة الجماعية لشخصياته السردية ومنها الموضوعي كالطبيعة المحافظة للمؤسسة الاجتماعية ومنها الذاتي الاجتماعي المتمثل بطبيعة المسرح السردي وعلاقاته الاجتماعية المتسامحة وإن كانت لا تخلو من البطريركية في التواشج اليومي بين النساء والرجال لما استطاع عبد العزيز المشري حتى في تلك المراحل الحالكة من التعصب والانغلاق أن يبز معظم أبناء جيله في إنتاج ذلك الكم من الأعمال الإبداعية في فترة قصيرة من شبابه المنهوب بين تهديدات الموت وبين منازلاته اليومية الشرسة لها بشهوة الحياة، دون أن يتنازل في حرف واحد عن تلك النوعية التحررية المستنيرة في إبداعه السردي بل وفي كتاباته بالصحف وأعماله الفنية التشكيلية وهوايته الموسيقية».

* الزهراني: رهان الكتابة

* الناقد معجب الزهراني قال إن عبد العزيز المشري «دوّن ذاكرة القرية نثرا حميما، وغناها أحمد أبو دهمان قصيدة مفعمة بالشجن، وحاولت أن أراقص روحها وقد تجلى في صورة بشر كانوا يحسنون العمل ويحتفلون بأجمل أعراس الحياة».

ويرى الزهراني أن مشري مارس الكتابة كرهان على حياة بديلة عن الحياة العادية العابرة، «وقد كسب المشري الرهان مرتين: كسبه مرة ضد الجسد الذي خانه فاستصفى منه مخيلة خصيبة لا تخون مبدعا مثله. وكسبه ثانية ضد الخراب الذي لحق بعالم كامل لم نحسب أنه سيندثر بهذه السرعة وبهذه الطريقة الكارثية العجيبة».

وأضاف: «أزعم أن عبد العزيز ما كتب عن القرية المفتقدة إلا لوعيه بانتشار الكآبة في كل مكان. فواقع المدينة الجديدة ليس فيه الكثير مما يغري بالحلم السعيد.. لم يتمكن أحد إلى الآن من مجاراة المشري (..) فنصوصه في مجملها، ونصوص أحمد السباعي من قبله، هي نماذج عليا للكتابة الماكرة التي تجابه واقعها/ واقعنا، بمرايا مهشمة تمعن في كشف قبحه وتشوهاته».

* الخنيزي: أعماله يجمعها شعور إنساني

* الكاتب نجيب الخنيزي، الذي أشرف مع فريق أصدقاء عبد العزيز مشري، على تنظيم هذه الاحتفالية قال: «إن كتابات مشري وأعماله الإبداعية من سرد وقصة ورواية ونتاجاته واهتماماته الفنية الأخرى، كالفن التشكيلي، والموسيقى، والخط، كلها يجمعها شعور ومنظور إنساني رفيع في بث قيم الحب والخير والجمال والتفاؤل المشرق بقدرة الإنسان على تجاوز جدران المستحيل والإعاقات الموضوعية والذاتية المختلفة. المشري الذي لم يشعر بالحميمية مع حياة المدينة (التي لا قلب لها) ولم يتعاطف مع إيقاعاتها الجامدة الخرسانية، بعكس القرية التي صور في كتاباته ورواياته وقصصه الإبداعية تفاصيل حياتها وشخوص أناسها البسطاء (تلك الوجوه المعمرة بحب الحياة والشقاء والمحبة الإنسانية) وفي تمظهراتها (مراسيم الفرح والرقص والموت وذي الكارثة، وكل أمر يعني الجميع). فعالم القرية بالنسبة له (هو عالم إنساني وطني متميز.. عالم يدهش بتمسكه بقيمه الإنسانية وترابطه، ودينامية حياته التكافلية، ومدهش بقوانينه المعيشية التي اختطها وأقامتها اعتبارات على احترام حق الفرد، واعتراف بالآخر حتى ولو بعيدا في التوافق.. لكن يقيم معه التصالح.. التصالح في كل علاقته مع الأشياء التي يحتك بها في حياته اليومية)».

* علي الدميني: بوصلة فكرية واضحة

* أما الشاعر علي الدميني، رفيق درب مشري، فقد قال: «امتلك مشري بوصلة فكرية وثقافية واضحة - رغم قساوة الظروف الصحية - في مشروعه الغني والطويل، من دون تراجع أو تخاذل، وكان يزداد ارتباطا بهموم الإنسان وحقوقه، وبالوطن ومشاغله، كلما تعرض جسمه للعناء الصحي، أو تعرض جزء من جسده للبتر، وكأنما كان يجعل من ارتباطه العضوي بالحياة والإنسان معوضا حيويا يسنده بقوة الصبر والاحتمال وبالاستمتاع بنور الأمل في حياة قادمة أقل قبحا وأكثر عدلا وإنسانية».

* محمد الدميني: رفقة الكتب والتيارات الأدبية

* ويقول الشاعر محمد الدميني، وهو الآخر كان رفيقا لمشري: «إنني معه افتقدت الرفقة الأدبية والفنية المحضة، رفقة الكتب والتيارات والأساليب والأسماء الفارقة التي أسهمت في صنعنا. كنا نتحدث عنها بجرعات مخففة من الروح الآيديولوجية والظلال السياسية التي صبغت كل الناس بصبغها الفاقع والمفرط.. كان في مقدورنا أن نتنادم ليالي كاملة عن هنري ميلر وغالب هلسا وتشيخوف ويحيى الطاهر عبد الله أو صنع الله إبراهيم أو ماتيس مثلا دون أن يحل علينا التعب. كان مفتونا بالنماذج المنفردة في السرد عبر أحاديث معمقة تذهب إلى تفحص الأساليب وتلمس مدى استثمار تلك التجارب في صنع هوية محلية سردية لفضائنا الحكائي».

ويضيف: «لقد دأب ذلك الطيب المطرود من كل النعم الأرضية تقريبا لكي يخرج من العباءة التقليدية للرواية المحلية مغامرا باتجاه صنع نصوص حديثة تنهل من الواقع وتناور أحيانا بين التزامها الفكري وبين تدفقها الفني والجمالي. في أيامه كانت غلاظة الرقيب على الذات وعلى وسائل النشر وعلى اللغة لا تحد.. لكنني أقول إن حياة عبد العزيز مشري القصيرة كانت تخفي أكثر من حياة، كانت تخفي آلاما وجراحا نفسية واجتماعية مديدة، لم يمهله القدر الساحق، ليكتبها».