المكان والإنسان والهم الاجتماعي في أعمال المشري

حسن النعمي في قراءته لإبداعه الروائي

TT

* الناقد السعودي الدكتور حسن النعمي، قدم دراسة في «إبداع المشري الراوائي»، قال فيها: «إن أهمية المشري، ليست إلا كونه روائيا وقاصا، وليس شاعرا على وجه التحديد. قد اتهم بالانحياز للرواية والقصة، لكن الحقيقة أن إنسانية المشري وغيريته، لا تتفق مع الشعر، بل الرواية أولا والقصة القصيرة ثانيا، هي التي يمكن أن تستوعب همومه وقلقه الوجودي. من هنا كان معماره الروائي منطلقا من جدلية التضاد بين مكونات الوجود الزماني والمكاني. فأمسك بزمام المبادرة في بيان أزمة القيم».

هنا مقتطفات من الدراسة:

هناك ثلاثة محاور نستطيع أن نتبينها بوضوح في تجربة المشري الروائية. هذه المحاور هي: المكان والإنسان والهم الاجتماعي. فيما يتعلق بالمكان، كانت القرية هي محور اهتمام المشري، فهي القرية الفاعلة، ثم القرية المتحولة، وأخيرا القرية المستلبة. لكن ضمير القرية وسر تميزها هو في خصوصية علاقتها بالمطر. والمطر هنا ليس بوصفه حادثا طبيعيا، بل بوصفه حدثا ثقافيا له طقوسه في سياق الحياة القروية. إن تتبع عناوين بعض الروايات يكشف كيف يشكل المطر وما ينتج عنه من زرع وارتواء نشاط القرية في كل مواسمها. فالوسمية تلخيص لكل تداعيات الموسم (الزراعي) وما قد يحمله من مفاجآت تؤثر على خاتمة الموسم. أما الغيوم ومنابت الشجر فهي عنوان يرمز للعلاقة الأزلية بين الأرض والمطر، وهي علاقة حاضرة في الذاكرة القروية كفعل من أفعال الخلاص أو النجاة.

وأخيرا «ريح الكادي»، وهو عنوان يؤسس علاقة مقاربة في النص، متلبسا بالإيحاء، مستدعيا عبقا خاصا فجرته تداعيات المطر سواء ما كان اجتماعيا منها أو فولكلوريا. فنحن لسنا أم ظاهرة مادية للكادي بقدر ما نحن أمام تداعيات وإحالات على مدلولات خارج سياق الرواية نفسها.

إن فلسفة المشري الروائية تقوم على جدلية الإنسان والمكان. فمن غير الممكن أن نتعرف على الإنسان دون أن نتعرف على ملامح المكان. لقد أدرك المشري أهمية المكان في رسم شخوصه منطلقا من وعي مفاده أن طبيعة المكان تشكل مزاج الإنسان ونشاطه ونمط معيشته. ولذلك فإن حضور الشخصيات يغدو جملة دلالية تعكس محور التفاعلات الإنسانية في ذلك المحيط.

لقد أحسن المشري عندما كسر نمطية الثنائية الأزلية في الصراع الإنساني، أعني بها، جدلية الخير والشر. فنتيجة لإقصاء هذه الجدلية انتفت الشخصيات النمطية ذات المعالم المطلقة في خيرها أو شرها، وتحولت الشخصيات في أعماله إلى شخصيات أناس عاديين لهم لوننا ولهم همنا دون أن ينتفي شرط الفن عنها. فهي شخصيات تتنازعها التناقضات التي تشكل جوهر الذات الإنسانية. فالإنسان في روايات المشري، رغم التباين من رواية لأخرى، نمط عادي فيه مزيج من الحب والخوف، مزيج من التحدي والانهيار، مزيج من الكفاح والتراخي، بل فيه أحيانا مزيج من الأنانية والأثرة. هذه التركيبة النفسية لشخوصه تركيبة واقعية ليس في ملامحها فقط، بل في فعلها وتفكيرها أيضا.

أما الموضوع الذي دأب المشري على التعبير عنه فهو التحولات وما أحدثته من خلخلة نفسية واجتماعية في بنية المجتمع التعاوني بأسره. فالكاتب يعلن صراحة موقفه غير الودي من سلبية التحولات، لكنه في الوقت نفسه لا يلغي أي بوادر إيجابية لهذه التحولات. ففي «ريح الكادي» تنتهي الرواية والجيل الجديد، جيل الأحفاد، لا يزال يجلس على مقاعد الدرس. وهي بالتأكيد رؤية تفاؤلية تبشر بجيل يبني نفسه وفقا لما تقتضيه التحولات الزمنية.

لقد مارس المشري الكتابة بوعي ليس بالضرورة نقديا، لكنه وعي بفلسفة المضمون الذي يقدمه ونوع الكتابة التي يتبناها. فهو يختار استراتيجية الكتابة عن وعي مطلق. وهذا ما يجعله يكرر هذه الاستراتيجية في كل ما يكتب سواء الرواية أو القصة القصيرة. لقد انعكست رؤيته السردية في الكتابة كما طرحها في كتابه «مكاشفات السيف والوردة» على مجمل أعماله الروائية.

ومن خلال متابعة البنى السردية في هذه الروايات يتضح ميل الكاتب إلى الكتابة عن بعد، أو بمعنى أصح إلى استخدام الراوي العليم. بمعنى أنه لا يستخدم راوي الأنا إلا في حالة ضيقة جدا في الجزء الأول من رواية «الغيوم ومنابت الشجر». وهو استخدام نرى أنه جاء تحت حاجة المضمون داخل العمل وليس من أجل خلق حالة من تعدد الأصوات داخل الرواية. إن توظيف الراوي العليم بهذه الكثافة يشعر بحيادية الراوي الضمني الذي يمثل الكاتب، وكأنها محاولة إلى تأكيد أن الأنا التي تشعل الحنين ما هي إلا مجرد استحضار عاطفي لماضي القرية.

إن تجربة المشري تجربة واعية بضرورة الكتابة من أجل التبليغ. فهو لا يكتب لجمال النص، بل إنه يكتب الرواية بشرط التلقي. إن التنظير حول الكتابة السردية الذي قدمه المشري في كتابه «مكاشفات السيف والوردة» طبقه بوعي في أعماله الروائية. فتجربة المشري تجربة واعية بأهمية الكتابة بهذه المعايير الفنية التي تتخذ من الواقعية سواء على مستوى اللغة أو البنية السردية أو المضامين مسلكا واضحا.