المثقفون والاغتيالات عبر العصور

المئات من المثقفين الأوروبيين قتلوا أو لوحقوا أو جنّوا أو انتحروا فلماذا لا يدفع المثقفون العرب الثمن؟

TT

لو سألني أحدهم ما هو أجمل وسام يمكن أن يضعه المثقف على صدره لأجبته على الفور ودون أي تردد: أن يكون مرشحا للاغتيال. ولو عاد وسألني عن أعظم جائزة هل هي نوبل مثلا؟ لأجبته: لا نوبل ولا سواها.. أن يكون في الدائرة الحمراء للخطر. عندما قرأت تاريخ المفكرين الذين غيروا وجه التاريخ أو ساهموا في تقدم البشرية وإنارة دربها وجدت أن معظمهم كانوا مهددين بشكل أو بآخر. هذا ما يقوله لنا كبير مفكري فرنسا حاليا ميشال سير في المقدمة الطويلة والممتعة لكتابه «ثناء على الفلسفة» باللغة الفرنسية. وهذا يعني أن الاغتيال ليس فقط من نصيب الرؤساء أو القادة السياسيين كما يتوهم البعض وإنما يحوم أيضا حول رؤوس المثقفين أو المفكرين. لا يمكن أن يموت العالم القديم للفكر وينبثق العالم الجديد إلا على أنقاض التضحيات الجسام والفرقعات الكبار. لا يمكن أن تنتصر الحقيقة، تلك المعشوقة الغالية، إلا بعد دفع الثمن. فمهرها مرتفع عادة. وكل شيء في سبيلها يهون.. وكم خاطر كبار المفكرين بأنفسهم من أجل رؤية وجهها، إشعاعها، معانقتها ولو للحظة خاطفة. ومن يرد أن يفكك القديم المتراكم ينبغي أن يحضر نفسه للمتاعب والمخاطر. هل تريدون أمثلة؟ لن أتحدث عن سقراط، فقصته معروفة للقاصي والداني. فقد فضل أن يتجرع السم الزعاف من أجل الحقيقة، وكان بذلك أول شهيد في تاريخ الفكر. أقول ذلك على الرغم من أنه كان بإمكانه أن يهرب كما نصحه أصدقاؤه وألحوا عليه. وحتى الآن نتحسر ونتأسف لأنه لم يهرب.. يا ليته هرب.. ولكنه فضل أن يواجه الموت وجها لوجه وأن يدفع ثمن أفكاره ويصبح بذلك مثلا أعلى ومنارة للأجيال القادمة. من هنا أهميته في تاريخ الفلسفة وتشبيهه بالمسيح أو بالأحرى تشبيه المسيح به لأنه سابق على المسيح من حيث الظهور. قال لتلامذته لكي يعزيهم: لقد قتلوني ولكن هل يستطيعون أن يقتلوا حقيقتي، أن يشوهوا سمعتي؟ وبالفعل فإن حقيقته لا تزال ساطعة تلعنهم منذ ألفين وخمسمائة سنة وحتى اليوم. وسمعته ازدادت توهجا بعد مصرعه ولم تقل. الطغاة يقتلونك جسديا ولكن من المستحيل أن يقتلوك فكريا أو معنويا. قالوا إنه يدمر مقدسات المجتمع ويستهزئ بها بل ويخترع مقدسات جديدة. كأن المفكر الكبير يستطيع أن يصبح مفكرا كبيرا دون أن يأتي بالجديد أو يفكك القديم! وقالوا إنه لا يؤمن بدين الآباء والأجداد كبقية البشر وإنما يخترع دينا جديدا، والعياذ بالله. وهي نفس التهمة التي وجهت إلى كل العباقرة المجددين على مدار العصور؛ أنهم يفككون القديم المتهرئ لكي يحلوا محله الجديد المنبعث. وعلى حطام القديم يشيدون البنيان الجديد. وهنا تكمن جريمتهم!

ولن أتحدث عن تلميذه أفلاطون الذي كان مهددا في جزيرة صقلية يوما ما وربما في أماكن أخرى أيضا. ولن أتحدث عن تلميذ تلميذه، أرسطو، الذي هرب من أثينا تحت جنح الظلام عندما شعر بالخطر قائلا عبارته الشهيرة: لن أدعهم يرتكبون جريمة أخرى ضد الفلسفة: يكفي أنهم قتلوا سقراط! ولن أتوقف عند ديكارت الذي كان ملاحقا أكثر مما نظن. وقد نصحه أصدقاؤه بأن يهرب إلى الخارج وأن يحافظ على نفسه قدر الإمكان لأنه الأمل الوحيد المتبقي لتجديد الفلسفة وتنوير البشرية الأوروبية بعد موت المفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون. ومعلوم أنه كان يغير مسكنه باستمرار ولا يعطي عنوانه لأحد، اللهم إلا لخلّص الخلص. ولكنهم في النهاية توصلوا إليه وقتلوه كما يقول لنا كتاب ألماني صادر مؤخرا وأحدث بعض الضجة في الساحة الفرنسية والأوروبية: «الموت المشبوه والغامض لرينيه ديكارت».

ولن أتحدث عن سبينوزا الذي حاول أحد متعصبي طائفته أن يغتاله بضربة خنجر. فحماه منها معطف سميك..

أما عن شارل ديغول فحدث ولا حرج! العشرات من محاولات الاغتيال جرت، منها ثلاثة كان ينبغي أن تودي به. ولكن العناية الإلهية حمته في آخر لحظة حتى كأنها تظلله بظلها، تسهر عليه وترعاه. لم يغفر له اليمين المتطرف الفرنسي أنه قرر التخلي عن الجزائر، عروس الإمبراطورية الكولونيالية وجوهرتها الغالية. في البداية تقدم مقنعا ولم يكشف أوراقه. ولكن عندما شعروا بنواياه الحقيقية جن جنونهم فقرروا تصفيته. حتى أقرب أعوانه كانوا من جماعة «الجزائر الفرنسية»! ميشيل دوبريه مثلا، رئيس وزرائه.. في بعض اللحظات كان قصر الإليزيه فارغا تقريبا ومحاطا بصمت رهيب. لقد انقطع خط التليفون!.. ولكنه كان قد اتخذ قراره. كان ينظر إلى البعيد ويعرف مصلحة الحقيقة والعدالة، ومصلحة فرنسا أيضا، أكثر من هؤلاء الصغار. كان وحيدا على عرشه وضد الكل. من هنا عظمة ديغول. وعلى هذا الصعيد يقاس حجم القائد التاريخي. القائد التاريخي ليس هو ذلك الشخص الذي يتبع عصبيته وجماعته ويدغدغ عواطفهم ومشاعرهم الشعبوية بمناسبة ودون مناسبة. وإنما هو ذلك الذي يستطيع في لحظة ما من اللحظات أن يقف ضد الشعب من أجل الشعب! هذا هو تعريف القائد التاريخي. إنه في المقدمة، في الطليعة، ويكاد يشم حركة التاريخ شما. من السهل أن تكون ضد الآخرين. ولكن من أصعب الصعب أن تكون ضد جماعتك وطائفتك وعشيرتك بعد أن أعماها التعصب والانغلاق على الذات، بعد أن طغت وبغت وفقدت كل منظور تاريخي بعيد المدى. هنا تكمن عظمة شارل ديغول إبان الأزمة الجزائرية التي كادت أن تودي به. ولكنه سار بالسفينة حتى النهاية بكل جسارة واقتدار. الشعب الفرنسي آنذاك كان كله تقريبا مع الجزائر الفرنسية. كان مستسلما لعصبياته الضيقة وعنجهيته الكولونيالية المنقرضة. لم يكن يرى إلى أبعد من أنفه. وعندئذ جيشت «المنظمة السرية المسلحة» الرهيبة كل طاقاتها للإطاحة بديغول. وهي أخطر تنظيم إجرامي وإرهابي في تاريخ فرنسا. إنها أخطر من المافيا. بل وأخذوا فتوى من أحد كبار رجال الدين تبيح تصفية رئيس الدولة بحجة الخيانة العظمى! واعتمدوا على نص غامض لأكبر مرجعية مسيحية كاثوليكية: القديس توما الاكويني. نعم حتى في فرنسا العلمانية كانوا بحاجة إلى فتوى لاهوتية؛ لأن قتل ديغول ليس مزحة بسيطة. فهو قائد فرنسا التاريخي إبان الحرب العالمية الثانية ومحررها من الاحتلال الألماني.

ولن أتحدث عن جان جاك روسو لأني قد أكرس له كتابا كاملا إذا ما استطعت أو عشت.. من يستطيع أن يتخيل الملاحقات التي تعرض لها جان جاك روسو طيلة النصف الثاني من حياته؟ لقد نغصت عليه عيشه حتى لأصبح يشك في كل واحد وفي كل شيء. لقد جنّنوه من كثرة الملاحقات فراح يهذي على الطرقات والدروب وحيدا ضائعا.. «ها أنا وحيد على سطح الأرض.. لم يعد لي أخ ولا قريب ولا صديق ولا حياة اجتماعية إلا نفسي وذاتي. أكثر الناس اجتماعيةً ومحبةً للبشر أصبح محظورا، منبوذا، ممنوعا من التواصل مع أي شخص كان. وكل ذلك بإجماع جبار ضُرب حوله فعزله كليا عن البشر..». ماذا فعل جان جاك روسو حتى يلقى هذا المصير؟ كيف تألبت عليه الظروف وأوصلته إلى هذه النقطة؟ هذا ما سأتحدث عنه في كتابي المقبل: جان جاك روسو والمؤامرة الجهنمية.

وحتى الفيلسوف العاقل جدا والرصين إيمانويل كانط من يظن لحظة واحدة أنه كان مهددا بالقتل يوما ما؟ نعم كاد أن يحصل له ما حصل لسلفه الأكبر سقراط. بل واتهموه بنفس التهمة: إفساد الشبيبة بأفكاره المهرطقة الهدامة الخارجة على الاعتقاد الصحيح أو الصراط المستقيم. وكان ذلك بعد موت حاميه الإمبراطور الشهير والمستبد المستنير: فريديريك الكبير، صديق فولتير. فقد صعد على العرش بعده ابن أخيه فريدريك غيوم الثاني الذي لا يشبهه بأي شكل وكان رجعيا مقربا من الأصوليين. وهؤلاء حذروه من الفيلسوف وأفكاره «الهدامة» غير المقبولة. فوجه إليه رسالة تهديد مباشرة لا لبس فيها ولا غموض. ورد عليها كانط برسالة هامة وعده فيها بالإقلاع عن الخوض في الشؤون الدينية بعد اليوم ما دام كلاهما حيا. ولحسن الحظ فإن الإمبراطور مات قبله وعندئذ أصبح كانط في حل من أمره فعاد إلى الكتابة في المسائل الدينية من جديد. وكان أن نتجت عن ذلك أبحاثه التي يصالح فيها بين الدين والعقل، أو الدين ضمن حدود العقل فقط.

أما هيغل فقد تعرض للتهديد أكثر من مرة وكانت رسائله تفتح وكان يعرف أنه مراقب جيدا من قبل سلطات الاستبداد. وكان يخشى الأصوليين المسيحيين ويتحداهم بفكره العملاق في ذات الوقت. وبالتالي فقد كان ملاحقا من جهتين لا من جهة واحدة فقط. وكان ينصح زوجته أو أصدقاءه الخلص بألا يكتبوا له في الرسائل أشياء هامة أو سرية. فقط أخبار عادية ومعلومات لا تقدم ولا تؤخر.. كيف هو حال الطقس عندكم؟ ما هي أخبار الأطفال الصغار؟ هل ماتت جدتي العجوز؟ هل انتحر فلان أو تزوج علان؟ إلخ...

وكما يقول لنا ميشال سير فإن معظم فلاسفة أوروبا على مدار الأربعمائة سنة الماضية تعرضوا للملاحقات والزعزعات حتى استنارت بلدانهم مؤخرا وترسخت فيها الحريات الأساسية ولم يعودوا يخشون على أنفسهم إذا ما عبروا بحرية عن أفكارهم. ثم يضيف: ولا واحد منهم عاش حياته مرتاح البال!.. والكثيرون كانوا على حافة الهاوية أو على حد السكين باستمرار. المئات قتلوا أو لوحقوا أو جنّوا أو انتحروا.. وبالتالي فلا أعرف لماذا لا يدفع المثقفون العرب الثمن قبل أن تستنير بلداننا وتتحقق فيها الحريات الدينية والسياسية؟ في الواقع إنهم بدأوا يدفعون. فمؤخرا تم اغتيال عشرات المثقفين والصحافيين في مختلف البلدان العربية والإسلامية. بل ووصلت الاغتيالات إلى الخارج الأبعد ولم تعد تكتفي بالداخل الأقرب.

الكتاب: ثناء على الفلسفة

المؤلف: ميشال سير