«الرجل ذو البدلة البيضاء».. مرثية شجية لعصر اليهود الذهبي في القاهرة

مراسلة «وول ستريت جورنال» سجلت وقائع خروج أسرتها من مصر

غلاف الكتاب
TT

بعد ما يزيد على أربعة عقود تذكرت «لوسيت لينيادو» صرخات أبيها على سطح الباخرة ماسيليا، وهي تخطو مبتعدة عن ميناء الإسكندرية، باتجاه الشتات، مثله مثل الآلاف من أبناء الطائفة اليهودية الذين تركوا مصر، فردوسهم المفقود، بعد سنوات من النعيم.

صرخ «ليون» أو «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين» كما سمته المذكرات، وقال بعامية مصرية ضاربة في الجذور «رجعونا مصر.. رجعونا مصر». كان الرجل في العقد السادس يجر قدمه المصابة بكسر مزمن، ومعها ثلاثة أطفال وزوجة، لا يملك من حطام الدنيا سوى بعض حقائب، وعائلة تفرقت سبلها، وذكريات جميلة قضاها في قاهرة الأربعينات ذات الطابع «الكوزموبوليتاني» المتسامح، كان خلالها متمتعا بأمان اجتماعي واقتصادي لم يصادفه أبدا في مهجره.

تبدأ لوسيت التي تعمل صحافية بـ«وول ستريت جورنال» حكايات عائلتها المنحدرة من أصول حلبية قبيل مولدها. تحكي عن ليون والدها وهو على مشارف الأربعين يحيا حياة لا يضيع فيها لحظة من الملذات، يبدأ يومه مبكرا في الكنيس حيث يؤدي الصلاة لمدة ساعة، وبعدها يعود للمنزل يتناول إفطارا خفيفا ثم يهرول إلى عمله ويظل به حتى المساء، يعود إلى المنزل ثم يقضي الليل غارقا في جلسات المتعة مع الإنجليز أو لعب القمار مع أقرانه.. يتمتع بصحبة علية القوم، ومن الممكن أن يجلس على مائدة الملك.. كانت تلك حياة الكابتن كما كان يطلق عليه في ليالي القاهرة لإتقانه لغة الإنجليز وتقمص عاداتهم.

يقابل ليون إيديث في لحظة عابرة بمقهى الباريزيانا الفاخر وسط القاهرة، وهي فتاة فقيرة تجيد الفرنسية وفنون الإتيكيت وتهيم بالقراءة، كانت معلمة بمدرسة خاصة تملكها عائلة قطاوي اليهودية الثرية.. تصبح زوجته، وفي المنزل تتقاطع ثقافتها الرفيعة مع أمه ظريفة ذات الميراث الحلبي المتشدد، وتبدأ البذور الأولى لعائلة ليون الصغيرة.

يسلط الكتاب الضوء على نقاط ظلت مظلمة طويلا، وكامنة وراء جدران البيت اليهودي في مصر الليبرالية.. منها القدر الهائل من التفاصيل الدينية داخل الحيز الضيق للبيت اليهودي، حتى وإن اتخذ شكلا طقسيا بحتا في أحيان كثيرة.. كان ليون مثلا يلعب القمار ويعاقر الخمر، ويصطاد الجميلات بغريزة صياد ثم يتضرع في الكنيس ولا يفارق كتاب الصلوات الأحمر يده، بل كشف الخصوصية الثقافية المعيشية ليهود حلب.. الولاء للأسرة الصغيرة أولا.. ثم للمال.. إضافة إلى السرية المفرطة في التعاملات المادية والتجارية، يكفي مثلا أن عائلة ليون لم تعلم بنشاطه التجاري ولا حجم أمواله أو طبيعة تجارته القائمة على السمسرة والوساطة إلا بعد خمسة عشر عاما من الزواج عندما وقع ضحية كسر مضاعف في ساقه على نحو أقعده في المنزل.

الكتاب مليء بالشجن لأيام مصر ونعيمها، ويعد بمثابة مرثية لعصر ذهبي افتقده اليهود بين أرجاء القاهرة، سواء هؤلاء الأغنياء على هرم السلطة ممن سكنوا حي جاردن سيتي أو القاهرة الخديوية أو الطبقة الوسطى (مثل عائلة ليون) ممن سكنوا القاهرة في أحياء السكاكيني والظاهر وشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) أو حتى ممن قطنوا حارة اليهود من فقرائهم.. وعلى مدى 360 صفحة ترسم لوسيت كيف افتقدت الأسرة كلمة لم تجدها إلا في مصر (الرحمة).

والأمثلة على افتقاد الرحمة في الشتات كثيرة، فجدة لوسيت لأمها اسمها ألكسندرا. تركت أهلها الأثرياء لتتزوج من رجل في القاهرة، فأغضبت الأهل. لكن الزوج خدعها بعد فترة وتحت ضغط الفقر باع وليدها في السوق. ظلت تصرخ لسنوات في رحلات بحث متوالية بلا جدوى. تركها الزوج بلا عائل، لكن تعاطف الأقارب ساعدها على إكمال رحلة الحياة وتعليم وليدتها إيديث زوجة ليون فيما بعد وابنها فيلكس الذي هاجر إلى إسرائيل.

تقارن لوسيت بين وضع جدتها في إسرائيل وما كانت تعيشه في مصر، فتقول «أصبحت ألكسندرا مخلوقا مثيرا للشفقة، بل الأدهى أنها أصبحت مثارا للسخرية.. كان الأطفال يتهكمون عليها ويضحكون في وجهها ساخرين، ولم يكن أهلهم أفضل حالا منهم.. كان مجتمعا قاسي القلب ذلك الذي كانت عليه إسرائيل الخمسينات، أظهر لها أبناء جلدتها من اليهود عطفا أقل كثيرا مما كان يظهره لها العرب الذين كانوا يقابلونها حين تسير لا تلوي على شيء في شارع الملكة نازلي.. فقد اعتاد المصريون أن يعاملوها بتلك الصفة الرائعة التي يسمونها (الرحمة)».

بل امتدت القسوة إلى بقية من هاجروا إلى الدولة العبرية فتقول لوسيت: «طنط (العمة) ماري كانت دائمة البكاء ولا تعرف كلمة واحدة بالعربية، وأنكل (العم) رافائيل ساءت صحته وانكسر قلبه بضياع تجارته ومات، وطنط ريبيكا مرضت بسرطان الرئة كما تم تجنيد ابنها ديفيد في الجيش».

مرت الأسرة بمآس كثيرة بدأ بعضها أثناء الوجود في مصر، حيث راحت العمة إينسون ضحية جريمة قتل وهي في طريق رحلتها إلى فلسطين، وماتت عمة أخرى في إيطاليا بعد ترحيل عائلتها على المحرقة، ولم ينج من الموت سوى ابنها سولومون الذي كان في مصر.. وتنصر عم لوسيت سولومون وأصبح راهبا يعيش في القدس. وبعد التضييق على الأسرة قررت الرحيل، وفي المهجر تحولوا إلى فقراء معدمين.. سواء في مهجرهم الأول في باريس أو في أميركا بعد أن قطنوا بروكلين وقلت مواردهم المالية بشدة.. خرجوا من مصر بما لا يزيد على مائتي دولار.. وتراجع ليون عن حيلة تهريب بعض الممتلكات الذهبية في علب للطعام خشية التعذيب.

انتهى الأمر بـ«ليون» بائعا لرابطات العنق في محطات المترو في أميركا، وهو الرجل الذي كان بمثابة الأمير في مصر.. حاول كثيرا أن يعيد مصر التي أحبها إلى حياته المهجرية.. كان يلتقي بأقرانه من اليهود المصريين في كنيس صغير.. لكن بمرور الزمن تضاءلت اللقاءات واستعصى هو على الذوبان في حياته الجديدة وقد أصبح كهلا.

مات ليون في مستشفى فقير في أميركا، وبعده بأشهر ماتت إيديث، وتفرقت الأسرة وتنازعت قضائيا.. ووسط زخم القسوة غرقت لوسيت في نوبة نوستالجيا دفعتها إلى العودة لمصر. تزور بيتهم القديم وتتحسس آثار قطتها «بوسبوس» لعلها ما زالت في مكانها. لكن القاهرة مختلفة. تغيرت ملامح الشوارع وأصبحت أكثر ضجيجا. فقط وجدت «الرحمة» كما هي. شعرت بها في احتضان جيرانها القدامى وهم يرحبون بعودتها.