مطالعة «مقربة» في صور الأدباء الشخصية

أدباء يضيفون إكسسوارات على صورهم فوق أغلفة الكتب وفي الصحف حتى اتحدت بشخصياتهم

TT

هناك مجموعة من أدباء الاتحاد يظهرون في صورهم الشخصية محملقين في الأفق الأبعد، أو يضعون أصابعهم على أصداغهم يستنطقونها، أو يبدون سعداء مثل الأطفال في زواياهم التي احتلوها واستعمروها بقوة النفوذ طامحين إلى الخلود فيها، وقد تجد بعضهم يقول شيئا بأصابعه (الحركة كلام باليد في الصورة المسكينة التي لا تظهر الكلام الصامت).

يبدأ الكاتب السوري حسن م يوسف مجموعته القصصية الأولى «العريف غضبان» باستهلال، لعله أجمل من قصص المجموعة قاطبة، وفيه يطلب أحد أبناء قريته منه مساعدته في العثور على صورة ابنه محمد من بين مجموعة صور! وكان أبو محمد قد دخل الاستوديو ونبش الصور، فرفض المصور مساعدته احتجاجا. فلجأ إلى حسن مستغيثا: هل هذا هو ابني؟ فيقول له حسن: هذا مستحيل، ليس بينهما شبه، ثم يخرج له حسن صورة ابنه، فيجيب الرجل بعد تمعن : نعم.. تشبهه!

لعل الأدباء يضيفون إكسسوارات وعلامات لصورهم حتى يعرفهم أمثال هؤلاء الأميين والمسحوقين الذين أهدى إليهم حسن م يوسف قصصه، أو أن أمتعة حميمة ما لزمتهم فالتصقت بصورهم حتى اتحدت بها، فصورة الأديب وليد إخلاصي الشخصية في أعمدته وزواياه لا يفارقها الغليون، وهو مثل حنا مينه الذي يظهر على أغلفة رواياته التي تصدرها دار الآداب البيروتية «علما على فمه نار»، فهو والسيجارة توأمان، وقد بلغ مينه الرابعة والثمانين ولا يزال يكتب، مع أن مدخنين اقل إدمانا ماتوا أبكر بكثير، والأعمار بيد الله. إخلاصي ومينه: باخرتان إبداعيتان تعملان بوقود من التبغ، لكن بمحركين مختلفين؛ مرجل خشبي عند الأول ومرجل ورقي عند الثاني. ومن يدري فقد يطال القانون - الذي حارب التدخين بمراسيم في دول عربية ثلاث - صورهما الشخصية التي تتداولها الصحافة بذريعة أنها تشجع التدخين، وقد تعتبره تدخينا سلبيا من الدرجة الثانية!

الأديب السوري محمد أبو معتوق يظهر في صوره الحالية بقبعة «كاسكيت»، ومثله الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، وقد تخلص أبو معتوق من جلدة الشعر المزيف الثقيل على رأسه، حيث كان صاحب الدعابة الذكية، يسميها «جاكيت الرأس». أما محمود درويش فمعظم بورتريهاته بعيدة نسبيا، يظهر فيها على المنبر أو وراء مكبر الصوت، أما سليم بركات فهو يظهر بصورة طيفية أو يكتفي بظل صورته على أغلفة رواياته. ويتبدى بقميصه الشيال غالبا، ولعله يهرب من صيف قبرص القائظ الذي لحق به إلى برد السويد أو ينادي ثلجا أبديا، أو لعله يحن إلى عصر الفتوات والعضلات في «سيرة الصبا». أما الكاتب السوري ياسين الحاج صالح وأخوه الروائي محمد الحاج صالح فيظهران في «كتاب الوجوه» بصورتين شخصيتين مظهرتين «سلبيتين»، النيجاتيف يخفف من قسوة المعاني التي خلفها المنفى أو السجن باللغة المسمارية على وجهيهما، وربما يضمر النيجاتيف قليلا من الغموض المحبب.

منشورات اتحاد الكتاب العرب تصدر منذ فترة غير قليلة بصورة شخصية للكاتب على الغلاف الأخير، صورة تشبه صور البطاقة الشخصية؛ حاسر الرأس، بائن الأذنين، مواجها لعدسة الكاميرا من غير حنف أو ميلان أو حيدان أو زوغان، وبجانب الصورة أو تحتها تتوالى معلومات سيرته الذاتية، ولا ينقص الصورة إلا العلامات الفارقة والجنس - مع ختم المختار - لتصير وثيقة تصلح لعبور القارات!

هناك مجموعة من أدباء الاتحاد يظهرون في صورهم الشخصية محملقين في الأفق الأبعد، في ما وراء البرزخ والملكوت، أو يضعون أصابعهم على أصداغهم يستنطقونها، أو يبدون سعداء مثل الأطفال في زواياهم التي احتلوها واستعمروها بقوة النفوذ طامحين إلى الخلود فيها، وقد تجد بعضهم يقول شيئا بأصابعه (الحركة كلام باليد في الصورة المسكينة التي لا تظهر الكلام الصامت).

و من أجمل البورتريهات المعبرة نجد بورتريه الحقوقي السوري مازن درويش في «كتاب الوجوه»، وفيه يدير درويش ظهره لعدسة الكاميرا، مثل حنظله ناجي العلي. ومن أعجب الصور الشخصية التي رأيتها صورة شاعر كردي، يظهر فيها بعتاد جندي مارينز كامل: ثلاث نظارات، واحدة على الرأس، وواحدة على العينين، وواحدة تتدلى على الصدر، كما يرتدي معطفا مثل معاطف رجال العصابات في أفلام المافيا ومصفوفة الماتريكس، وفي الصورة أيضا، كاسكيت بالرغم من شعره الذي يربى بعناية الزيوت والسوائل... لقد جمع الشاعر المجد الحاسر الرأس من أطرافه الأربعة المظلفة، ولا تنقصه إلا مدفعية بازوكا.

أنطون تشيخوف يظهر في صورته الشخصية الشهيرة بعويناته الطبية الدائرية ذات السلسلة، أما أرنست همنغواي فيظهر منبثق العنق من كنزته التي تشبه بركانا من الصوف. الشاعر بودلير ينظر إلينا نظرة تفوح منها رائحة «أزهار الشر» مثل نظرة همنغواي، أما ألكسندر دوماس فتلمع سلسلة ساعة الجيب من صدره الواسع العريض.

لمحمد لطفي المنفلوطي الذي جعل ماجدولين غادة الكاميليا، صورة وحيدة يتيمة، يظهر فيها معتمرا عمامة صعيدية وشاربا يقف عليه الصقر الأصلع باستعداد، أما نوبل العرب نجيب محفوظ فيظهر في بورتريهين شهيرين، واحد في أيام الشاب بقبعة أوربية ونظارة سوداء، وصورة أخرى في أيام الشيخوخة بلحية مهملة، وفي الصورتين تصاحبه دائما شامته العملاقة الراسخة القدم على الخد الأيسر، فوق الشفة. لم يسبق له أن ترك شامته المخلصة وحيدة في البيت.

توفيق الحكيم يظهر بكاسكيت وعكاز في كتاب «عودة الوعي» (كأن الوعي العربي لا يعود إلا بالعصا أو على عكاز)، أما صورة طه حسين الأشهر فهي بالطربوش التركي والنظارة السوداء. وأحيانا يظهر في بعض الصور حاسرا. ومن أشهر البورتريهات الأنثوية صورة الأديبة الدمشقية غادة السمان التي قامت بمعجزة استئناس البوم، ذلك الطائر المشؤوم ظلما، البوم يرافقها في جميع صورها، ويتوعد المستقبل العربي بعينيه اللتين لا تريان إلا في الظلام الدامس.

وأعرف أديبا دمشقيا يصلح صورته الشخصية، يزاحم أسنانه بالمناكب في صف مستقيم ويسد فرجها، ويعالجها بآلات «الفوتوشوب» – مزور الصور - كما أنه يغطي عورة رأسه التي تصحرت بسواد كريم، فتصدر صورته شابة ريانة في آفاق الصحيفة، يقول لي مستعيرا جملة من الإنجيل بعد تصحيفها: «قليل من الكذب يفرح قلب الإنسان».

صورة رسول حمزاتوف تذكرنا بالأباطرة الرومان في الأفلام الأمريكية، أما عزيز نسين في أشهر صوره فيشبه اليابانيين، والسياب يشبه أحفاد الفراعنة أمل دنقل ومحمود السعدني.. العرب إخوة فرقتهم الجغرافيا اللعينة.. أما عملاق القصة العربية يوسف إدريس فهو يشبه الأيرلنديين، ولو أتيح لعميد الأدب العربي أن يراه بعينه لواظب على نظريته القائلة بأن مصر قطعة من أوروبا، سرقتها يد أفريقيا السمراء الطويلة.

أما الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، فاشتهرت صورته الشخصية بقلنسوته التي أهداها له البرزاني، وعليها جملة يقشعر لها بدن الجغرافيا الآسيوية «كردستان أو الفناء»! وكان المرحوم يستجيب لشروط المضيف بعد هربه من العراق، فيدير القبعة لكاميرات المضيفين، فتفنى كردستان ساعة على رأس الشاعر العربي حتى ينتهي اللقاء التلفزيوني أو الصحافي.

ولو بحثنا في ألبوم صور الأدباء الأقدمين لوقعنا على صورة المتنبي التي تخيلها رسام من القرن التاسع عشر، وفيها يظهر شاعر العروبة الخالد، محدب الأنف بعينين غاضبتين وحاجبين منخفضين عند ملتقى الأنف، مرتفعين عند الصدغ، كبير العمامة، مستدير اللحية، مفتول الشاربين. لقد استقرت الصورة في الصحافة استقرار التخلف العربي، فلو عاد المتنبي حيا كما عاد طارق بن زياد في قصص زكريا تامر – بالرغم من السفن التي أحرقها وراءه! - لقبضت عليه الشرطة العربية بتهمة محاولة قلب الحكومة الصينية الشعبية الاشتراكية!

ونختم بصورة نادرة لشاعر عربي مخضرم اسمه جرول بن أوس ولقبه الحطيئة نجدها في الصفحة الأولى من هائيته الشهيرة، وفيها يقول:

أرى لي وجها شوه الله خلقه / فـقـبـح من وجه وقـبح حامله

الصورة كما ترون مأخوذة خطفا بكاميرا البحر البسيط سريعة التحميض، إلا أن له صورة أخرى بالأسود الحزين والأبيض الطاهر، كلما قرأتها ذرفت عيناي دمعتين كبيرتين حارتين سهلتين عريقتين.. كل دمعة أطول من نيل وأغزر من فرات. ولا أدري هل أبكي بهما على لوعة الحطيئة، وعلى أفراخه بذي مرخ، أم على دمعتي رجل، ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أعدل منه.