الجوائز الثقافية في الخليج.. مؤشر إبداع أم ترف؟

في ظل حراك ثقافي خليجي متصاعد

TT

في ظل التوجه الذي يشهده المشهد الثقافي الخليجي نحو زيادة الاهتمام بالجوائز الثقافية والإبداعية وتكريم المبدعين، تطفو على السطح جدلية الإبداع وحقيقته في مجتمع ما زالت النظرة إليه باعتباره مجتمعا «نفطيا مترفا».

واعتبر مثقفون شاركوا في هذا التحقيق أن تصدي مؤسسات رسمية أو أهلية خليجية لإعلان جوائز عابرة للحدود تشجع التنافس في مجال الإبداع، من شأنه أن يقفز فوق الحدود الجغرافية من أجل التواصل الحضاري، وهو جزء من المسؤوليات المشتركة. وهو أيضا يمكن أن يحيّد الجدل في ثنائية «المركز والأطراف»، وهي الثنائية التي بدأت بـ«التكسر» في الحيز الثقافي وغيره، على الرغم من أن هناك من يتمسك بهذه النظرية غير مقتنع إلى الآن أن العالم لم يعد «دائرة» أرضية، بل صبح رقما من «الديجيتال» لا مركز فيه ولا أطراف.

مثقفون ونقاد ومبدعون سعوديون وعرب يناقشون دور الجوائز الثقافية في الخليج وعلاقتها بالمشهد الإبداعي وانعكاساتها على المبدعين، إضافة إلى دورها في تكوين صورة مختلفة عن الخليج ومبدعيه.

* الوشمي: الجوائز مؤشر على نمو الأدب

* الدكتور عبد الله الوشمي رئيس النادي الأدبي بالرياض يشير إلى «تكسر» الصورة النمطية التي ترى أن المبدع الخليجي لم يكن يحظى بقبول في الوسط الإبداعي العربي، لكن الصورة تغيرت الآن.

يقول الوشمي: «الواقع بدأ يأخذ مسارا مختلفا، فهناك حضور خليجي لافت للمبدعين، وهو حضور يتناسب كثيرا مع عدد مبدعي الخليج، خصوصا إذا تمت المقارنة مع مصر، أو غيرها، وإذا كانت مقولة (المركز والأطراف) بدأت تأخذ في التكسر في الحيز الثقافي وغيره، فإن اللافت أن أصحاب المركز هم الذين أخذوا في نقضها».

وحول دور الجوائز الثقافية والأدبية في البيئة الإبداعية الخليجية، يرى الوشمي أن ظاهرة الجوائز الثقافية والأدبية تعد مؤشرا مهما على نمو الإبداع وحياته وحضوره. ورغم إقراره بأن هذه الجوائز قد تقع في فخ العصبية الثقافية وغيرها، إلا أنها استطاعت أن تكوّن أرضية جادة من الحياد والتميز.

وفي سياق الحديث عن قدرة هذه الجوائز على تغيير الصورة النمطية التي تكونت عن الخليجي «المترف»، يقول الوشمي: «حضور الجوائز الخليجية يدل على وعي ثقافي، وأظن أنه من الأجدر بدلا من التثريب على مانحيها، أو التنابز حول أهدافها، أن نتجه إلى تأهيلها والمطالبة برفع سقف الجودة فيها، وأن تكون خاضعة لمعايير علمية وإدارية صارمة، وذلك بهدف أن نخلق تكاملا ثقافيا عميقا بين المبدعين ومانحي الجوائز، ويجب أن نعي جيدا أن الوسط الثقافي قادر على أن ينتخب الجوائز المتميزة، وأن يثق بها ومصداقيتها».

وفي تقييمه لهذه الجوائز وانعكاسها على الواقع الثقافي الخليجي يشير الوشمي إلى أن الجوائز التي تتبناها المؤسسات هي ذات شروط والتزامات أدق من جوائز الأفراد، وهو الفارق بين الجوائز التي تأتي بقوالب نمطية جاهزة وتلك التي أصبحت نماذج تحتذى، مشيدا في هذا الصدد بجائزة الملك فيصل وصداها العالمي وجائزة الملك عبد الله للترجمة التي تؤصل الاتجاه إلى الترجمة وتفعيلها.

* لمياء باعشن: الجوائز تغير صورة الخليجي الاستهلاكي

* الدكتورة لمياء باعشن ترى أن الجوائز الثقافية والأدبية هي أحد مقاييس الإبداع الذي يصعب قياسه، خصوصا أن قيمته خاضعة لعوامل وظروف مختلفة، من ضمنها أن الإبداع هو إيجاد شيء غير مسبوق، وبالتالي: كيف يمكن قياسه؟

وتضيف د. لمياء باعشن أن الجوائز الثقافية تعطي المبدع إحساسا بالتقدير لعطاءاته ومتابعة أعماله. غير أنها تقر بأن تقييم هذه الجوائز للإبداع ليس شموليا، حيث تقتصر على الأعمال المقدمة للترشيح وتخضع لخبرات ورؤى لجان التحكيم التي لا يتجاوز عدد أفرادها الآحاد.

وحول الجوائز الثقافية والأدبية في الخليج والاتجاه إلى دعمها، تقول باعشن: «الخليجي ليس هو مبتدع هذا الدعم، بل هو آخر المنضمين إلى مسيرة تاريخية طويلة من الاهتمام بالإبداع وتصحيح صورته في أذهان الناس، خصوصا في هذا الزمن الذي اتجه بكليته إلى الجزء المادي من الحضارة الإنسانية وإلى دعم المنتج الملموس والاستهلاكي الذي يقلل من فعالية الإنسان ويحيد وجوده».

وتعتقد باعشن أن وقوف المال الخليجي إلى جانب الثقافة بقوة لا يعزز صورة نمطية عن ترف الخليج، بل يغير من تلك الصورة التي يظهر فيها الخليجي مبعثرا ماله في التوافه، ومستهلكا ساذجا لكل ما يطرح أمامه للبيع.

وفي سياق حديثها حول انعكاسات هذه الجوائز على الواقع الثقافي الخليجي تقول: «نمو الوعي وتفتح الفكر واقع ملموس في الخليج، فنحن نشهد نهضة تنموية كبرى، ولأول مرة ليس على الصعيد الإسمنتي، بل على مستوى الفرد الذي بدأ يفكر وينتقد ويتساءل، وكل هذا انعكس على أدواته التعبيرية والفنية التي تأتي هذه الجوائز معززة لها إلى جانب الدعم والتشجيع».

وتنتقد باعشن في هذا السياق النظرة الدونية إلى الإبداع بقولها: «أهم قضية يواجهها الخليجي في علاقته مع الإبداع هي التوعية بأهمية هذا الإبداع كمنتج حضاري يسهم في صنع ثقافة مدعاة للفخر والمباهاة، فالفنون في المجتمع الخليجي ما زالت صنعة الصعاليك، وهي لا تحظى بالاحترام المطلوب، بل ينظر إليها نظرة دونية باعتبارها هوايات فارغة لا قيمة لها وأن من يقومون بها فسقة، وأن منتجهم يسعى إلى تلهية الناس عن كل ما يفيدهم في دنياهم وآخرتهم، كل هذه المفاهيم تقذف بالمبدع إلى الهوامش وتجعله منبوذا في مجتمعه وبين أهله».

* فرزات: الجوائز غير قادرة على تغيير الصورة النمطية

* ويعلق الروائي عدنان فرزات، المقيم في الكويت، الذي عمل ضمن إحدى الجوائز الخليجية، على العلاقة بين الجوائز الثقافية في الخليج والمشهد الإبداعي الحقيقي، بقوله: «هذه الجوائز ورغم حصول الكثير من العرب والأجانب عليها، فإنها ما زالت غير قادرة بالمطلق على تغيير الصورة النمطية التي افتعلها بعض المثقفين العرب، الذين كرسوا في أذهان الجمهور أن الإبداع رديف الفقر والتشرد أحيانا، أو أن المبدع الحقيقي هو فقط ذاك الذي لا يملك قوت يومه ويطارد الخبز، في المقاهي، وبالتالي فهم يستنكرون على الأثرياء أن يكونوا مبدعين. هذا المفهوم (الثوري) كرسته بعض التيارات السياسية في حقب معينة من المد اليساري، واستمر لغاية اليوم». ويستشهد فرزات بردة الفعل التي صاحبت فوز الروائي السعودي عبده خال بجائزة بوكر بنسختها العربية عن روايته «ترمي بشرر»، إذ شكك البعض في أحقيته في الحصول على البوكر، معتقدا أن ذلك «ينبع من منظار العقدة المملة التي يطالعنا بها أصحاب نظرية المركز والأطراف، غير مقتنعين إلى الآن أن العالم لم يعد (دائرة) أرضية، بل صبح رقما من (الديجيتال) لا مركز فيه ولا أطراف».

وحول طبيعة الجوائز الثقافية في الخليج، يقول فرزات: «بحكم عملي الثقافي في الخليج، واقترابي اللصيق من المؤسسات الثقافية، وجدت أن هناك حراكا تشجيعيا كبيرا تقدمه هذه المؤسسات والأفراد من رجال الأعمال إلى النتاجات الإبداعية العربية، وأحيانا حتى الأجنبية، ومن هذه الأخيرة ما تقدمه جائزة الملك فيصل العالمية، التي يدل عليها اسمها، وكذلك هناك جائزة عالمية عن أفضل الدراسات التاريخية حول دور القرى الأندلسية في صناعة الحضارة، تقدمها (مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري)»، مشيرا إلى أنه يندر أن نجد في مكان آخر رجال أعمال يقدمون هذه القيمة من الجوائز، في داخل الوطن العربي وخارجه.

* الحمد: أوساطنا الاجتماعية طاردة للثقافة

* محمد الحمد رئيس النادي الأدبي بحائل يرى أن الصورة النمطية المشوشة للمبدع الخليجي (الترف) تعود إلى أن «أوساطنا الاجتماعية طاردة للثقافة لأنها تنزع إلى التفكير التقليدي المقاوم للإبداع، كما أن صوت الثقافة خافت إعلاميا مما يجعل المشهد الثقافي عرضة للتقييم من خارجه وبالتالي التأثير عليه سلبيا».

وفي ما يخص الجوائز، يشير إلى أن وجود الجوائز الثقافية في الخليج هو ظاهرة صحية تسهم في تفعيل الحراك الثقافي، مؤكدا أن الدعم الذي تتلقاه ما زال ضئيلا في مقابل الدعم الذي تجده مجالات أخرى. ويضيف: «إن الجوائز الثقافية في الخليج ما هي إلا انعكاس لحراك ثقافي صاعد يجب أن تدعم لتتطور وتصبح قادرة على المنافسة مستقبلا». ويرى الحمد أن المشهد الإبداعي الخليجي إلى جانب الجوائز الثقافية هو بحاجة إلى بيئة صحية محفزة على الإبداع، غير مقاومة للجديد، وذلك حتى تتطور وتصبح أكثر إنتاجية وجودة.

* المنصوري: صورة الخليجي المترف مرحلة انتهت

* الدكتور جريدي المنصوري الرئيس السابق للنادي الأدبي بالطائف يجيب على تساؤل حول عدم قدرة المبدعين الخليجيين على المنافسة في الجوائز بالقول: «إن الجوائز ليست مفصلة على مقاس أحد، وليس شرطا أن يفوز بها الخليجي، فهي خاضعة للتحكيم وليست موجهة إلى المبدع الخليجي دون غيره، ونزاهة التحكيم هي التي تنظر إلى الفرص المتنافسة وتقيم الأفضل»، مؤكدا في هذا السياق أنه لا يوجد نقص في مستوى الإبداع لدى الخليجيين مقارنة بغيرهم المثقفين العرب، إلا أنه يرى أن الخليجيين عموما يعزفون عن المشاركة في هذه المسابقات. ويشرح أسباب هذا العزوف بخوف البعض من الخسارة، إضافة إلى النظرة إلى الجوائز عبر قيم اعتبارية تختلف عن تلك التي تحملها الجائزة.

ويرى المنصوري أن الصورة النمطية للخليجي المترف الذي لا يمكن أن يصبح مبدعا كما يتصوره الآخرون هي مرحلة قد تم تجاوزها، حيث أصبح الخليجي حاضرا بإبداعه في المحافل الإقليمية والدولية، مقدما إنتاجه بصورة مشرفة. ويؤكد المنصوري أن المؤسسات الخليجية التي تقدم الجوائز الثقافية هي بدورها لم تنكفئ على ذاتها، ولم تقتصر على الخليجيين وحدهم، بل دعمت غيرهم من المثقفين والمبدعين العرب.

* الدويحي: المبدع الحقيقي لا تهمه الجوائز

* الروائي السعودي أحمد الدويحي يقول إن الكاتب المبدع الحقيقي لا تهمه للجوائز، حيث إن ميدانه وعالمه الكتابي ونجاحه هو الجائزة الحقيقية، مشيرا إلى أن تقدير المبدع والإبداع من المجتمع يكون عادة من شخصيات وهيئات اعتبارية، وأهمية الجوائز تأتي من خلال مصداقية مانحيها، فقيمة الجائزة المادية تأتي بعد القيمة المعنوية.

ويرى أن هناك ثلاث جوائز في العالم العربي لها من قيمتها المعنوية والمادية ما يضعها في مصاف الجوائز العالمية، وهي «جائزة الملك فيصل»، فالذين حصلوا عليها في ميدان الأدب هم نماذج عالمية وأسماء كبيرة، ويتم منحهم جوائز عبر ترشيح مؤسسات ثقافية وفكرية. و«جائزة سلطان العويس» في دولة الإمارات، وهي جائزة مقدرة ومعتبرة لكونها أولا أتت من رجل أحب الأدب، كما أنها ليست جائزة مسيّسة. وهناك «جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية»، وهي جائزة كسبت أيضا احترام المثقف العربي.

ويؤكد الدويحي أن الجوائز إذا لم تكن لوجه الإبداع والثقافة فهي نفاق اجتماعي، واستغلال للأدب ونقاء فضائه، بغض النظر عن الفائز بها أو مصدر الجائزة، منتقدا تقييد هذه الجوائز بشروط وتوجهات من يقدمها. ويقول عن ذلك: «في عالمنا العربي كثير من هذه الجوائز من شرقه حتى غربه، فكل دولة لها جوائزها ومبدعوها أيضا وفق شروطها وتوجهاتها، وتمنح في الغالب للذين ينضوون تحت تلك الشروط، ويخرج منها من لا يتسق معها، فكم من مبدعين كبار في بلدانهم لا يجدون تكريما ولا يتلقون جوائز».