هل الإنسانية بحاجة إلى الماركسية؟

رؤية للحركة الشيوعية تاريخا ومستقبلا من منظار إسلامي

TT

عن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، صدر كتاب «مأزق الحركة الشيوعية المصرية.. الجذور التاريخية والخيارات المستقبلية»، وهو من تأليف: طلعت رميح، وتقديم: د. وحيد عبد المجيد. وجاء في المقدمة: «ماذا حدث في الحركة الشيوعية المصرية، وكيف تراجع دورها إلى حد أنها صارت مهددة بأن تتلاشى، وكيف نفسر مأزقها على أسس موضوعية؟ ما زال هذا السؤال المركب، وسيظل لزمن، يصعب التكهن بمداه، مطروحا للبحث والتأمل والنقاش، باعتباره جزءا من مسألة أعم وأشمل تتعلق بأحوال التيارات السياسية والفكرية التي عرفتها مصر، كما غيرها، في العصر الحديث».

ويرى د.عبد المجيد أن الحركة الشيوعية ليست وحدها هي المأزومة، ولا هي وحيدة في مأزقها. فمثلها، بدرجة أو بأخرى، باقي اليسار. ولا تختلف كثيرا حال الحركات والتيارات الليبرالية والقومية العربية، من حيث الجوهر في الأقل. وإذا كانت الحركات الإسلامية تبدو في حال أفضل، كما يضيف، فهذا ما نراه على السطح ومما يمكن أن تختلف النظرة إليه إذا نفذنا إلى بعض أعماقه. فقوة هذه الحركات، ليست منها وإنما من أولئك الذين جففوا منابع السياسة والفكر السياسي في المجتمع فحدث فراغ ملأه الدين (أو بالأحرى استغلال الدين). كما انتشر في هذا الفراغ الخطاب، الذي يسمى دينيا، بصوره المتنوعة وفتاويه التي تملأ الآفاق.

ويستمد هذا الكتاب أهميته، حسب د. عبد المجيد، من تجربة كاتبه في صفوف هذه الحركة، قبل أن يغادرها ويصبح من ناقديها. فيقدم طلعت رميح في هذا الكتاب مزيجا من الشهادة والتحليل والتقييم قد يختلف عليه كثير من اليساريين، ولكنهم يمكن أن يجدوا فيه - أيضا - الكثير مما يفيد حتى لا يكون الأداء في المستقبل إعادة إنتاج لما حدث في التاريخ.

ويعتقد المقدم أن الإنسانية ستظل في حاجة إلى «الماركسية ليس فقط باعتبارها منهجا علميا في المقام الأول، ولكن أيضا لأن في هذا المنهج دليلا ومرشدا إلى مستقبل أفضل أكثر عدلا أو حتى أقل ظلما للفقراء والضعفاء. وقد أسهمت الماركسية فعلا، وليس فقط تحليلا، في ذلك. فما كان للنظام الرأسمالي أن يتطور باتجاه فكرة الحد الأدنى الاجتماعي وما يقترن بها من رعاية وضمانات لمختلف الفئات في المجتمع إلا بتأثير الماركسية التي مثلت تهديدا له في أعماقه». والمفارقة الكبرى التي يسجلها المقدم، وهي مفارقة قلما ينتبه إليها بعض الباحثين، هي أن الماركسية حققت للنظام الرأسمالي نجاحا لم يتحقق مثله للنظام الاشتراكي الذي أقيم على أساسها. وإذا كان هناك من يرون أن هذا يعود إلى عيب جوهري فيها، يعتقد آخرون أن هذا العيب هو في أولئك الذين طبقوها وفق ما فهموه منها.

والأرجح أن العيب، كما يضيف د. عبد المجيد، يوجد هنا وهناك. فليس هناك فكر إنساني يخلو من العيوب. ولكن مزايا الماركسية ومنافعها تظل أكبر من عيوبها وأضرارها، إذا أحسن من يؤمنون بها استيعابها وفهم ظروف مجتمعهم في آن معا، واستمعوا جيدا إلى الآراء المختلفة وحاولوا الاستفادة منها، وخصوصا تلك التي يحاول أصحابها فهم ما حدث للحركة الشيوعية.

وهذا هو ما يسعى إليه في هذا الكتاب طلعت رميح، صاحب التجربة الثرية، حيث يقدم رؤيته للحركة الشيوعية تاريخا ومستقبلا وفق خبرته الخاصة جدا، ومن منظار إسلامي بات ينظر إلى العالم من خلاله، بعد أن انتقل من موقعه اليساري الشيوعي إلى موقع يندرج ضمن أحد روافد الإسلام الحضاري.

يقع الكتاب في أربعة أقسام: القسم الأول منه تحت عنوان: «المظاهر العامة للمأزق التاريخي للحركة الشيوعية المصرية». وهو يتناول المظاهر العامة لمأزق الحركة عبر أطوارها/مراحلها الثلاث منذ بدايتها وحتى الآن. حيث يبدأ الكاتب هذا القسم بمدخل عام لتاريخ الحركة الشيوعية، لتسهيل المتابعة والوصول إلى رصد الظواهر العامة التي لازمت الحركة عبر تاريخها. ويعتقد المؤلف أنه يقدم في ذلك الجزء من الكتاب دراسة علمية غير متداولة لا في أوساط الحركة الشيوعية ولا في أوساط الحركة الإسلامية، في رصد الظواهر وتحديدها وبلورتها عبر التاريخ المتطاول للحركة.

أما القسم الثاني من الكتاب، الذي يحمل عنوان: «فشل الحركة الشيوعية في دراسة مأزقها»، فيتناول فيه الكاتب بالتحليل الأسباب «المباشرة» للظواهر التي رصدها في القسم الأول، وهي الأسباب التي يعتقد أنها تبدو للعيان أو التي تسبب حدوث كل ظاهرة على حدة في كل مرحلة من المراحل التي مرت بها الحركة الشيوعية منذ عشرينات القرن الماضي وحتى الآن، ليستنتج المؤلف بعد ذلك أن تلك الأسباب «المباشرة» تتوارى عن أن تصبح أسبابا جوهرية عند البحث عنها وفق رؤية معمقة. ويخلُص المؤلف في هذا القسم، ومن خلال رحلة ممتدة لدراسة حالة «تكرارية» نفس ظواهر مأزق الحركة الشيوعية في الدول العربية، ولأسباب مباشرة أخرى تخص حركتها في كل بلد على حدة - إلى أن مظاهر مأزق الحركة الشيوعية المصرية هي مظاهر عامة لازمت كل الحركات من هذا النوع في المنطقة، ويرى الكاتب أن البحث في الأسباب يجب أن يتخطى خصوصية الواقع المصري الذي غرقت فيه التحليلات، لننطلق من هذا إلى توضيح ومناقشة ونقد الأسباب التي يراها بعض قادة الحركة أسبابا للمأزق التاريخي الذي عاشته الحركة منذ بداية نشاطها المنظم في مطلع عشرينات القرن الماضي وحتى الآن.

ينتقل طلعت رميح بعد ذلك في القسم الثالث من الكتاب وهو بعنوان «الأسباب الحقيقية لمأزق الحركة الشيوعية» لبحث الأسباب الحقيقية في رأيه لمأزق الحركة.

فخلال هذا القسم، الذي يتضمن مقدمة وخمسة فصول، يبحث الكاتب عن إجابات لأسئلة يعتقد أنها مهمة حول تلك الظاهرة، تأتي في مقدمتها بعض الأسئلة «النظرية» منها: هل يمكن باتباع المنهج العلمي في الدراسة والبحث - وحتى باستخدام قوانين الماركسية نفسها - أن نقول إن ثمة نظرية عالمية للماركسية؟ والأمر ينطبق على مفاهيم ماركس حول الاقتصاد ونظريات لينين وماو وغيرهم بشأن الصراع الطبقي والثورة، ومنها البحث في سقوط الاتحاد السوفياتي وكل الدول الاشتراكية من خريطة الماركسية كنظرية. فهل يكفي لتبرير ذلك الحديث عن البيروقراطية السوفياتية أو حتى رأسمالية الدولة؟ أو هل يكفي لتفسير ذلك القول إن هذه التجارب تمثل مرحلة تاريخية «مضت»، أم أن الأجدر هو القول إن أفكار الماركسية نفسها كانت «مرحلة تاريخية في عمر البشرية» يجب البحث في ما يدخل عليها من تطويرات وتغييرات «فكرية»؟

ويطرح الكاتب عقب ذلك بعض الأسئلة الأخرى التي يحاول الإجابة عنها، والتي يرى أنها بالغة الأهمية في ضوء تجربة الحركة الشيوعية، منها: ما «نظرية» الحركة الشيوعية المصرية لتحقيق رؤيتها وأهدافها؟ وهل نجحت الحركة عبر تاريخها في التوصل إلى نظرية مقاومة أو نظرية للثورة التي «حلمت» بها؟ أم أنها لم تقدم سوى رؤية لحركة احتجاجية جماهيرية مدنية ذات برامج مطلبية؟

ويعتقد الكاتب أن ما يتعين علينا أن نبحث عنه هنا، ليس تساؤلات حول وجود برامج سياسية أو حتى عما يسمى في الأدبيات الماركسية دراسات لتحديد طبيعة السلطة الحاكمة(!)، لكننا ينبغي بدلا من ذلك أن نتساءل عما إذا كانت تلك الحركة قد امتلكت يوما ما نظرية للتغيير، أو رؤية متكاملة لبناء فكري وتنظيمي خاص بالمنطقة العربية أو بمصر أو وجود رؤية لاستراتيجيات محددة وتكتيكات مرتبطة بالواقع ومراحل التنفيذ. بعد ذلك، ينتقل المؤلف ليحاول الإجابة في هذا القسم أيضا عن التساؤل لماذا - كانت وما زالت - الانقسامات ظاهرة ملازمة للنشاط الشيوعي، منذ بدأ هذا النشاط في مصر والعالم العربي وحتى الآن؟ وأيضا لماذا اتسمت هذه الحركة بظاهرة الأطوار أو الأجيال، حيث جرت نشاطات الحركة بالانقطاع بين الأجيال ليبدأ كل جيل عمله على أنقاض تجربة الجيل السابق - مثل الأب الذي يترك أسرته غارقة في الديون - ودون تقدم أو تجاوز للظواهر السلبية المدمرة في حركة الجيل السابق؟ ولم فشلت محاولات جذب العمال إلى صفوف الحركة خلال ما يقرب من القرن من الزمان، وهل يكفي لتفسير ذلك الحديث حول «عنف البرجوازية المصرية» ضد الحركة الشيوعية؟ وهل يكفي تبريرا لذلك القول بأخطاء تكتيكية سياسية أو تنظيمية؟ وهل ترتقي تلك الأخطاء إلى أخطاء في التطبيق الفكري؟

وتتواصل التساؤلات التي يسعى المؤلف لتقديم إجابات من منظاره الخاص لها، منها دور الأجانب في الحركة ولماذا سيطر اليهود - والصهاينة تحديدا - على قيادة الحركة في الجيلين الأول والثاني بصفة خاصة؟ وما علاقة هذه السيطرة بالمشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني خلال الحرب العالمية الثانية؟ وماذا كشفت عنه تجربة الحركة الثالثة في هذا الجانب، التي نشئت - خلا أحد الأحزاب - خارج أطر القيادة والوجود المكثف للأجانب واليهود والصهاينة الذين انزاحوا من الحركة على يد الناصرية، بينما لم تتمكن الحركة في ذاتها من طردهم من جسدها؟ وما دور الأجانب في عمليات الانقسام والتشرذم؟ وهل كان ذلك لحساب جهات متعارضة بالخارج أم لمجرد خلافات بين شخوصهم؟ وما دورهم في إصابة الحركة الشيوعية بالاغتراب والبعد عن الواقع المصري؟ وهل كان دورهم بحد ذاته - أيا كان - هو الذي أصاب الحركة بالاغتراب أم أن هناك أسبابا في أصل النظرية والفكر هي التي أصابت الحركة بالاغتراب جاء وجود اليهود والصهاينة نتيجة له، وكان دورهم في إصابة الحركة بالاغتراب «ناتجا لناتج» أصيل؟ وهل كان دور اليهود والصهاينة أيضا وراء إصابة الحركة بداء الاقتصار على المثقفين أم أن الحركة من الأصل لم يكن لها إلا أن تجذب مثقفين من القابلين للتغرب؟ وهل كان دور اليهود في الحركة ناتجا عن كثرة عددهم ونشاطهم وطبيعة ثرواتهم المالية في مصر، أم أنهم من الأساس كانوا يؤدون مهمة ضمن التحالف البريطاني - الصهيوني، الذي بدأ مع الحرب العالمية الأولى - وأنتج وعد بلفور 1917 - واستمر خلال الحرب العالمية الثانية، وتمثل فعليا على الصعيد العسكري في انخراط اليهود في الأعمال المسلحة بجانب القوات البريطانية خلال الحرب، ووصل إلى حد إقامة الكيان الصهيوني، حيث تمكنت الحركة الصهيونية من خلال سيطرتها على الحركة الشيوعية، من إصدار قرار بموافقة فصيل من الحركة الشيوعية المصرية على قرار تقسيم فلسطين، تحت غطاء مبدأ حق تقرير المصير أو طروحات التعايش بين القوميتين، اليهودية والعربية.

ويختتم الكاتب تلك الدراسة برؤيته الخاصة حول مستقبل الحركة الشيوعية في ضوء المتغيرات الدولية والمحلية في القسم الرابع والأخير من الكتاب، الذي يحمل عنوان: «مستقبل الحركة الشيوعية إلى أين: الخيار الحضاري» والذي يبحث المؤلف على صفحاته فرضية ما إذا كان الدور التاريخي للحركة وفق ما ظهرت ونشطت، قد انتهى، في ظل عودة البعث والإحياء الديني في العالم وفي ظل تبلور مفاهيم صراع أو حوار الحضارات، التي يعتقد الكاتب أنها، وإن كانت قضايا تواجه الحركة الشيوعية في العالم كله، إلا أنها تمثل قضايا أكثر حيوية بالنسبة إلى الحركة الشيوعية في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، وفي المنطقة العربية بشكل خاص. وبطريقة أخرى، فالسؤال المهم والحيوي في ذلك القسم من الكتاب، كما يرى المؤلف، هو: هل تندفع الحركة الشيوعية في ظل مفاهيم العولمة والغزو الثقافي والحضاري إلى رؤية أكثر «تغربا»، باعتبارها من الأصل أحد معطيات «الفكر» الغربي؟ أم أن التجربة التاريخية، والمأزق المتصاعد للحركة منذ بدايتها وحتى الآن، وتبلور الصراع بين الحضارة الغربية في جانبها الاستعماري، والحضارة العربية الإسلامية في جانبها المقاوم، على أسس حضارية شاملة سيدفع الحركة الشيوعية أو قطاعات منها، إلى الانحياز إلى هذا التصنيف في نمط الصراع، والانحياز إلى ما يعتبره الكاتب حضارة الأمة.

ويتساءل الكاتب: إذا كانت الإجابة عن السؤال السابق هي أن كوادر من الحركة سينحازون إلى حضارة أمتهم، فما مشروعهم؟ هل سيدعون إلى الحفاظ على الهوية والثوابت الحضارية التي هي قضية جوهرية في الصراع في مرحلة العولمة الراهنة أم يقدمون طرحا يقوم على وقف الهيمنة العسكرية والاقتصادية، دون الأبعاد المتعلقة بالهوية الحضارية للصراع في حد ذاته؟

وأيا كان الأمر، فهذا كتاب للمستقبل وليس عن الماضي. وهو كتاب نرجو أن يكون فاتحة أعمال تسعى إلى تحليل وتفسير مأزق حركاتنا وتياراتنا السياسية والفكرية كلها ما ظهر منها وما بطن.