ما أجمل القراءة بلا مرشد!

TT

كان التاريخ محطة أولى في رحلتي مع القراءة. فقد نشأت في عائلة غريبة ينتمي جزء منها إلى حزب الوفد، ويرتبط جزء آخر بجماعة الإخوان المسلمين. وكان لكل منهما تفسير لتاريخ مصر الحديث يناقض الآخر. ولذلك قصدت كتب التاريخ لعلها تعينني على حيرتي بينهما.

كانت البداية قراءات عشوائية في أجزاء من كتب عدة خلال المرحلة الإعدادية. وبفضل مدرس التاريخ في المرحلة الثانوية، قرأت كتاب المؤرخ المشهور عبد الرحمن الرافعي عن مصر بعد ثورة 1919 كاملا، وكتبا أخرى لمؤرخين أحدث عهدا أذكر منهم محمد أنيس وعبد الرحيم مصطفى. وبدأت حينئذ أفهم كيف يختلف الناس في تفسير وقائع التاريخ. وعبر قراءة القرآن الكريم في هذه المرحلة تعلمت الكثير من قواعد اللغة العربية.

وما إن التحقت بجامعة القاهرة حتى جذبني اليسار، وبدأت رحلة القراءة الآيديولوجية بكتاب المنظّر البولندي بوليتزر الذي يلخص مبادئ الماركسية ويبسّطها إلى حد التسطيح. كان الوقوف عند سطح الماركسية هو السائد في أوساط اليسار المصري في الجامعة وخارجها. ولم يكن هذا كافيا لشاب اختار الاتجاه الماركسي وفضّله على الاتجاهين الإسلامي والليبرالي السائدين في عائلته. ولذلك بحثت عن بعض الأصول وقرأت ما أمكنني منها، علما بأن معظم الوقت في تلك الفترة كان مخصصا للحركة وليس للفكر.

ومن أكثر ما تأثرت به في هذه الأصول وبقي معي، كتاب كارل ماركس «الثامن عشر من بروميير»، وكتاب لينين «الشيوعية اليسارية مرض أطفال»، لارتباطهما الشديد بظواهر محددة في السياسة المصرية. ومع ذلك كان بيان - وليس كتابا - أصدره الحزب الشيوعي الإيطالي دافعا إلى نقلة كبيرة في رحلتي، وهو البيان الذي تخلى فيه عن فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا» وفتح الباب أمام مراجعة الماركسية. اقتنعت حينئذ بمبررات «اليوروكوميونيزم» المنفتحة على الديمقراطية التعددية. وقادني التفكير إلى أحضان الاشتراكية الديمقراطية عبر قراءات في بعض أصولها وأهمها «الفابية». وأعدت حينئذ قراءة أفكار الاشتراكي الديمقراطي الذي خرج من عباءة الشيوعية الألمانية، والمعركة الفكرية العميقة التي دارت بين كاوتسكي أبرز أقطاب هذا التيار وروزا لوكسمبورغ.

وانفتحت منذ ذلك الوقت على فكر العدالة الاجتماعية بمعناه الواسع، وتأثرت كثيرا بكتاب الفيلسوف الأميركي جون رولز (نظرية في العدالة) الذي يعتبر أهم أصول الليبرالية الاجتماعية. وتزامن ذلك مع القراءة الأكاديمية في علوم المجتمع لغرض أطروحتي الماجستير والدكتوراه، ولأداء عملي البحثي الذي بدأ في مركز الأهرام للدراسات.

كما توسعت قراءاتي وتجاوزت الفكر والفلسفة والسياسة والمجتمع لتحلق في آفاق الأدب والفن الأكثر رحابة. وكان هذا فتحا في رحلتي مع الحياة كلها، إذ لم يعد الأدب والفن مؤدلجين في إطار الواقعية الاشتراكية. كنت ورفاقي ننفر من «تبديد» وقتنا في تجليات ما اعتبرناه بنية فوقية للنظام البورجوازي. وحتى إبداع نجيب محفوظ البديع صنفناه كذلك وفق ما شرحه لنا محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما الذي اعتبرناه مرشدنا إلى عالم الأدب.

وعندما قرأت الثلاثية متحررا من هذا القيد، دخلت في مرحلة جديدة. أما حين أعدت قراءة رائعة ارنست همنغواي «لمن تقرع الأجراس» باعتبارها إبداعا روائيا وليس عملا نضاليا ضد الفاشية، كان هذا يوما مختلفا في رحلتي. فمنذ ذلك اليوم، صارت قراءة الرواية متعة افتقدتها قبله.

ومن اليوم الذي قرأت فيه رائعة ماركيز «مائة عام من العزلة»، أصبح للأدب العالمي وبصفة خاصة أدب أميركا اللاتينية مكان معتبر في حياتي. ولذلك كانت في انتظاري، وقت كتابة هذه الزاوية، الترجمة العربية الصادرة حديثا لسيرة جوزيه ساراموغا الذاتية التي يسرد فيها أحداث السنوات الـ15 الأولى في حياته. فما أجمل القراءة بلا مرشد يحتل عقلك ويهيمن على تفكيرك.