العلماء العرب جددوا التراث اليوناني وحفظوه من الضياع

في مؤتمر المخطوطات بالإسكندرية

إحدى جلسات المؤتمر الذي استمر على مدى ثلاثة أيام («الشرق الاوسط»)
TT

البحث عن الحلقات المفقودة في جذور التراث العربي الإسلامي كان هم 45 عالما وباحثا من 16 دولة عربية وأجنبية، التقوا حول مائدة مؤتمر «التواصل التراثي الدولي السابع لمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية».

وعلى مدى ثلاثة أيام في الفترة من 25 إلى 27 من مايو (أيار) الماضي، وعبر 32 ورقة بحثية ناقش العلماء جذور تلك الحلقات المفقودة في محاور أربعة شملت الفلسفة والطبيعيات، والمعارف العامة والتاريخ، واللغة والتصورات الدينية، والفنون والآداب. وسعوا إلى استكشاف طبيعة التواصل التراثي في مرحلة مبكرة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، والظواهر التاريخية الكبرى والصغرى التي ارتبطت بها وتفاعلت معها، وانطلقت منها في تراث الحضارات والأمم السابقة، وهو ما تبدى على نحو متفاوت في معرفتهم بتراث اليونان والفرس، وفي انقطاعهم عن تراث مصر القديمة والهند. وسعى العلماء إلى رصد وتحليل أبعاد حضور المسيحيين واليهود والصابئة في الظاهرة العربية الإسلامية، وكيف تفاعلت اللغة العربية مع السريانية والفارسية والعبرية، وما حقيقة التأثير التراثي العربي الإسلامي في زمن النهضة الأوروبية.. وغيرها من القضايا والإشكاليات في حلقة الوعي المنقوص بالتراث العربي الإسلامي.

افتتح المؤتمر الدكتور يوسف زيدان مدير مركز ومتحف المخطوطات بورقة بحثية بعنوان «مفهوم التواصل التراثي»، طرح فيها عددا من التساؤلات المهمة حول التراثيات التي أثرت في صياغة التراث العربي/ الإسلامي، في إطار عملية التواصل بين تراث الإنسانية، مشيرا إلى جملة من المباحث في العلم العربي سعى أصحابها إلى استكمال ما تركه السابقون من غير العرب والمسلمين، وحرروه للاحقين من غير العرب والمسلمين أيضا. ولفت زيدان إلى ضرورة التخلص من الأوهام التراثية والرؤية المتمحورة حول الذات، المنكفئة عليها، المكتفية بها، وذلك في سياق تأسيس وعي حقيقي بتراثنا، المخطوط منه والمطبوع، مؤكدا أن «لكل تراث تراث، ولكل سابق أسبق»، وأن درس الحضارات يعلمنا أنها نتاج تراثيات تعاقبت وتراكبت وأفضى بعضها إلى بعض، فمثلما هناك معلم أول هو أرسطو، هناك معلم ثان هو الفارابي، وأن أبي صادق النيسابوري الطبيب هو «بقراط الثاني» لأن أبقراط الأول كان يونانيا.

وفي دراسة ضافية استعرض الدكتور رشدي راشد أثر الأصول اليونانية في نشأة الفكر العلمي والفلسفي في الإسلام، موضحا كيف ساهمت العربية في حفظ الكثير من المؤلفات اليونانية التي فقدت في لغتها الأم، ولم يبق إلا ترجمتها العربية. مشيرا إلى أنه يجب أن نفهم دوافع النقل لهذا الأثر أو ذاك، ومعرفة امتداداته، والصور المختلفة التي اتخذها. وأكد راشد أن تاريخ نشأة الفكر العلمي والفلسفي ودور الأصول اليونانية فيه لم يكن نقل نسخ واستيعاب، ولكنه نقل إصلاح وتجديد، أدى إلى خلق فكر علمي وفلسفي مبتكر.

واتخذ راشد من الكندي العالم والفيلسوف العربي برهانا على ذلك، مشيرا إلى عدم التواصل التاريخي للبحث العلمي رغم التواصل الحضاري والثقافي في شرق حوض البحر المتوسط. حيث كانت الفلسفة أسعد حظا من العلوم، بفضل كبار الشراح مثل سنبلقيوس ويوحنا النحوي. وكذلك الدور الذي لعبه البعد الاجتماعي لظاهرة نقل الأصول اليونانية إلى العربية، خاصة نقل دواوين الدولة البيزنطية وترجمتها للعربية قبل نقل النصوص العلمية والفلسفية، وهي تدل على بداية الترجمة تلبية لحاجات آنية، وبفضل مبادرات فردية، توسعت إلى مشاريع ضخمة مع انتقال السلطة إلى العباسيين، خاصة التخطيط للمدن وما استلزمه من معارف فلكية وهندسية وحسابية، مما أدى إلى تشجيع الترجمة.

ويلفت راشد إلى أنه لا يمكن بحال فهم نقل النصوص اليونانية دون تجديدها بالبحث الدؤوب وإعادة ترجمة الأصول ومراجعتها، لذلك لم تتوقف معايير الجودة في الترجمة للإرث اليوناني عن التطور، وأصبح هذا الهم بمثابة قاعدة، وذلك منذ أن راجع الكندي بعض ترجمات قسطا بن لوقا، وراجع ثابت بن قرة ترجمات إسحاق بن حنين وهلال بن أبي الحمصي. ويخلص راشد إلى أن جدلية النقل والبحث - على هذا الأساس - كان طابعها التقني السعي إلى تجديد الأصول، وهو أحد أسس نشأة الفكر العلمي في ميدان المناظر والرياضيات، بل العلوم الرياضية عامة.

ومن البحوث اللافتة في المؤتمر بحث القس وجيه يوسف حول «اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الإسلامي». حيث يرى أن القرن الأول من العصر العباسي شهد حركة تفاعل منقطعة النظير بين علماء اللاهوت المسيحي والمفكرين المسلمين، خاصة المتكلمين، راصدا أشكالا وأنماطا متعددة لاستبيان مدى التأثر والتأثير المتبادل الذي حدث بينهما، متخذا من عمار البصري نموذجا على هذا التأثير، في إطار من الجدل الطبيعي بين الثقافات. ويؤكد الباحث أن اللاهوت العربي المسيحي هو أفضل صياغة لاهوتية تصلح للحوار مع الإسلام، لكونه تعبيرا خارجا من قلب الحضارة العربية، كما أنه نص موضوع باللغة العربية، ومكتوب بأقلام عرب، وكان مدارا لصراع حول تحديد الهوية الدينية في ظل الإسلام.

ويحدد الدكتور حسن حنفي معنيين يرى أنهما أساسيان في درس جدل التواصل والانقطاع في التراث العربي الإسلامي. المعنى الأول هو: التواصل والانقطاع بين الحضارات، مشيرا إلى أن التراث الإسلامي إحدى حلقات التراث القديم، الفارسي والهندي شرقا، واليوناني والروماني غربا. أخذ وترك، نقد وطور، انقطع وتواصل، ولكنه تواصل أكثر مما انقطع لقدرته على تمثل الآخر. وقد تواصل معه التراث الغربي في العصر الوسيط، وظل كذلك حتى العصور الحديثة. ويلفت حنفي إلى أن فلسفة التنوير في عصر النهضة الأوروبية كانت بمثابة جماع التراثين الغربي والإسلامي.

ويحدد حنفي المعنى الثاني في التواصل والانقطاع داخل التراث الإسلامي نفسه بتياراته وفرقه الكلامية ومذاهبه الإسلامية، وطرقه الصوفية، ومناهجه الأصولية. مشيرا إلى أن ذلك أفرز مجموعة من المفارقات تفتقر إلى المعايير والضوابط العلمية بين: الظاهر والباطن، النظر والذوق، النقل والعقل، الشريعة والحقيقة الأثر والرأي. وهو ما أدى إلى سيادة التراث الواحد في أوقات كثيرة بفعل السلطة السياسية وإقصاء المعارضة، حيث يغلب الظاهر والنقل والأثر والشريعة، على حساب التعددية التراثية والحوار بين الموقفين المتعارضين. ومن ثم يطرح حنفي سؤالا مهما وهو: ألا تقتضي الظروف الحالية تغيير اختيارات التراث الأولى التي تواصلت منذ أكثر من ألف عام وأن ننقطع معها ونتواصل مع بدائل تراثية أخرى أكثر قدرة على الاستجابة لمتطلبات الحاضر والمستقبل؟

ومن بين الدراسات اللافتة التي بحثت وشائج التواصل التراثي في الأدب العربي، بحث الدكتورة هدية الأيوبي حول «المؤثرات الأسطورية في الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام». ورصدت من خلال عدد من المحاور المنهجية تجليات الأسطورة عند الشعوب القديمة، وصلتها بالأدب العربي مثل أساطير: الخلق، الطوفان، جلجامش، العالم الآخر وغيرها. كما يبرز البحث تجليات الأسطورة في الشعر الجاهلي، في أنماط الخرافة، وسيادة فن الرثاء، والبطولات الخارقة من مثل عنترة والزير سالم، ويوضح كيف تلونت بعد الإسلام بالرموز الدينية والصراعات السياسية كالانقسام الشيعي، والمعتقدات الشعبية.

واختتم المؤتمر ببحث أثار الكثير من الجدل والإعجاب في الوقت نفسه للدكتور عكاشة الدالي، وهو عالم آثار مصري، حول أثر التراث الفرعوني المصري القديم في التراث العربي الإسلامي. فعلى عكس ما هو شائع من الجهل بهذا التراث ذكر الدالي أن الكثير من علماء العرب في الإسلام عرفوا التراث الفرعوني، وقد قام بعضهم بزيارة المعابد الفرعونية وأفادوا من المعامل العلمية التي كانت موجودة بها في معرفة المعادن، وكيفية الانصهار بينها، خاصة معدني الذهب والنحاس. كما كشف البحث عن أن الكثير من الألفاظ في القرآن الكريم، لها جذر لغوي فرعوني. وأن فكرة الميزان في الحياة الآخرة موجودة لدى الفراعنة ومنقوشة على معابدهم، وهي أحد المقومات الجوهرية في الديانة المصرية القديمة.