«السياسات الثقافية» العربية لم تولد بعد!

الثقافة تكلف الجزائر 450 مليون دولار في السنة ويوظف لها 900 ألف شخص في مصر

TT

ليس للدول العربية سياسات ثقافية واضحة الملامح بالمعنى العلمي للكلمة. ولهذا فإن وزارات الثقافة، وبعضها ضخم وله ميزانيات كبيرة جدا، لا تعمل وفق رؤى وأهداف وخطط توصل إلى غايات مدروسة ومحددة. والأسوأ من هذا كله هو غياب الشفافية، وصعوبة وصول أي باحث إلى معلومات دقيقة حول عمل هذه الوزارت وسبل الإنفاق فيها، وما الذي يتحقق، وما هي الإخفاقات التي تمنى بها. هذا غيض من فيض ما توصلت إليه أبحاث أجريت على ثماني دول عربية، نوقشت مضامينها في مؤتمر عقد في بيروت، وأنذر بضرورة الكف عن السير وفق عبثية لا توصل إلى شيء.

* «السياسات الثقافية العربية لا تتعدى كونها توجهات عامة يتم السير وفقها، ولا تتطور لتصبح مجموعة قوانين وقواعد تقرها السلطات رسميا من أجل تطوير بعيد المدى. كما أن الثقافة في العالم العربي تبقى مسخرة لخدمة السياسة: القومية، الحزب الحاكم، الهوية الإسلامية، أو ربما ثقافة المقاومة». هذه هي الخلاصة التي توصلت إليها مجموعة دراسات رصدت - وفق منهج علمي - السياسات الثقافية لثماني دول عربية، قامت بها «مؤسسة المورد الثقافي» ونشرتها في كتاب صادر عن «دار شرقيات» لعله الأول من نوعه في اللغة العربية. ورافق نشر الكتاب مؤتمر عقد في بيروت في السابع والثامن من الشهر الحالي ناقش الموضوع نفسه، من خلال عدة محاور.

واللافت في الموضوع أن السياسات الثقافية التي يفترض أن تكون مسألة وطنية، لا بل وسيادية، تعطيها الحكومات العربية أولويتها، تهتم بها اليوم مؤسسة أهلية صغيرة في مصر، وتمولها جهات أوروبية هي «المجلس الثقافي البريطاني» و«المؤسسة الثقافية الأوروبية» و«مؤسسة دون الهولندية». ولا ترى بسمة الحسيني، مديرة «مؤسسة المورد الثقافي»، أي ضير في الشراكة مع مؤسسات غربية، وتقول: «كل ما يخص أي أمة هو موضوع وطني، الأمن موضوع وطني، والتعليم موضوع وطني، وكذلك الدفاع والصحة، ومع هذا فإن الحكومات تتعاون في هذه المجالات مع دول أخرى شريكة. نحن من جانبنا لم يقل لنا أحد ابحثوا في أمر السياسات الثقافية، نحن من طلب المعونة لدراسة هذا الموضوع تحديدا، بعد أن عملنا لسنوات في التدريب على الإدارة الثقافية، واكتشفنا مواطن الخلل، وغياب السياسات، وعدم وجود معلومات نبني عليها، كي نستطيع بالفعل النجاح في الإدارة الثقافية». وتضيف الحسيني: «من الضروري أن نكون كعرب على وعي بما نريد، وما نحن بحاجة إليه، ونضع خطتنا. هناك من يرفض دعمنا على هذا الأساس وهناك من يقبل، وهؤلاء هم من نتعاون معهم».

ولكن إلى أين ستقود هذه الأبحاث والمعلومات والتقارير التي تعدها مؤسسة المورد عن السياسات الثقافية بوضعها المتردي الحالي، والاقتراحات التي ستتقدم بها. الجواب واضح في مقدمة الكتاب الصادر حديثا أن «الهدف هو بناء قاعدة معرفية تدعم التخطيط والتعاون الثقافي في المنطقة، واقتراح آليات من شأنها تطوير العمل الثقافي».

الدول التي تمت دراستها لغاية الآن هي: لبنان، سوريا، الأردن فلسطين، مصر، الجزائر، تونس والمغرب، على أن تضاف إلى اللائحة أربع دول أخرى، بدءا من عام 2011.

واللافت أن الدراسات التي أجريت - وفق منهج خاص وضعه المعهد الأوروبي للبحث الثقافي المقارن وتم تطويعه ليتلاءم والبيئة العربية - خرجت ببعض النتائج المتشابهة، على اختلاف الدول العربية التي تدرسها، لعل أهمها تزايد مشاركة القطاع الخاص، وإن بنسب متفاوتة في تمويل الأنشطة الثقافية، وكذلك الدور الواضح للمؤسسات والتمويلات الغربية، وغياب السياسات الوطنية ذات الرؤيا، وبالتالي ضمور الصناعات الثقافية، التي يمكن أن تدر أموالا، وتؤمن مداخيل مجزية. أما عند الدخول في التفاصيل فيتبين أن مصر والجزائر تحتضنان وزارتي الثقافة الأكبر والأضخم عربيا. إذ يعمل في وزارة الثقافة المصرية بمختلف مؤسساتها وإداراتها تسعون ألف موظفا بدوام كامل ما عدا االمستشارين والموظفين المؤقتين والمتعاقدين. ومع ذلك تقول الدراسة «يشهد الوضع الثقافي المصري تراجعا مطردا» بسبب الفساد والبيروقراطية. وحين تعرج الدراسة على التنوع الثقافي ووضع الأقليات في مصر من أقباط ويونان ونوبيين ولاجئين، تلحظ أن «السياسات الخاصة بنشر التسامح لم تترجم إلى واقع فعلي إلا لماما». فلم تقم الوزارة بتجذير أي أفكار لها علاقة بنشر التسامح، كما لم يتم أي تغيير في مناهج التعليم الأساسي وبرامج التلفزيون لتعزيز التماسك الاجتماعي. بشكل عام تقدم الدراسة صورة حزينة عن الواقع الثقافي المصري، إن لم تكن سوداوية لا يبددها سوى إيجابية تطوير المتاحف بحيث قام المجلس الأعلى للآثار بمصر بحصر كامل لتحديث وإنشاء 59 متحفا ومخزنا أثريا، وتطوير وترميم 14 موقعا تاريخيا.

النموذج الجزائري بحسب ما يطرح الكتاب، وكما جاء في مداخلة الخبير الجزائري في مجال السياسات الثقافية عمار كساب، خلال المؤتمر، يستحق أن يقرأ، ليس فقط لكثرة الإدارات والمؤسسات، ولكن أيضا بسبب المبلغ الهائل المخصص للثقافة، والتي قال كساب إنها وصلت إلى 450 مليون دولار العام الماضي، 150 مليونا منها خصصت للمهرجان الأفريقي، مما يعني أننا أمام ميزانية من المفترض أن تنهض بالبلاد. لكن مع ذلك، أشار الكاتب الجزائري أمين الزاوي المشارك في المؤتمر إلى أن ما ينجزه المركز الثقافي الفرنسي في الجزائر على مستوى النوعية والفاعلية والأهمية، لا يمكن مقارنته بما تقدمه وزارة الثقافة الوطنية بكل إمكاناتها. لهذا يعتقد كساب أن النقد لم يعد يجدي، والأفضل هو اللجوء إلى ما سماه البحوث العلمية التقنية المحضة، التي تقدم الحقائق والأرقام، وللسلطة أن تستفيد منها وأن تعود إليها.

الشكوى تكاد تكون هي ذاتها، كلما تم الكلام في المؤتمر عن بلد عربي جديد، فالأموال ترصد، لكنها في الغالب تهدر دون مردود معنوي أو مادي يوازيها. أما لو نظرت في الكتاب ورسومه التي توضح هيكليات وزارات الثقافة العربية وإداراتها، بتفرعاتها وتشعباتها، لظننت أنها تقيم الدنيا ولا تقعدها. ويقول الباحث السوري حسان عباس إن «البنى المنظمة لعلاقة السياسة بالثقافة تمنع المبدع من تحقيق مشروعه، لا بل إن السلطة من شدة الحب والاحتضان والحماية باتت تخنق المجتمع المدني». ويرى عباس أن «انسحاب الدول من تأدية التزاماتها الثقافية ترك المجتمع نهبا للثقافة المعولمة، بمنتوجاتها وأفكارها، بحيث تنتقل السلع الثقافية بمنتهى السهولة، بينما لا يستطيع المبدع العربي نفسه أن ينتقل من بلد إلى آخر، ويبقى هو وفنه حبيس رقعة جغرافية صغيرة».

الوضع في المغرب ليس أحسن حالا رغم أن الدراسة المغربية المنشورة في الكتاب تحاول أن تقدم صورة وردية عن تحسينات طرأت على السياسات المتبعة هناك في السنوات الأخيرة، إذ تشير الدراسة إلى أن الإنفاق على الثقافة ارتفع من 7.8 % بين عامي 1994 - 1998 إلى 33 % بين 1998 - 2002. لكن نقرأ في مكان آخر أن ثمة انتقادات كبيرة للطريقة التي تصرف بها هذه الأموال، لا سيما على المهرجانات، حيث بلغت نفقات احتفالات مدينة فاس بمناسبة مرور 1200 سنة على تأسيسها 50 مليون دولار، وبلغت ميزانية مهرجان تطوان نحو 1.4 مليون دولار، ومثله مهرجان «تيميتار»، عدا الإنفاق الباذخ على المهرجانات السينمائية الدولية. ويخلص البحث إلى القول: «لا يوجد في المغرب في الوقت الراهن آليات لمراقبة تنفيذ السياسة الثقافية أو تقييمها انطلاقا من اعتماد قراءة اقتصادية وتنموية وإنتاجية». وبالتالي من الصعب بناء أي قاعدة معرفة حول تقدم أو تأخر سواء في المجال السينمائي أو النشر، أو حتى في رصد عدد المقبلين على القراءة، أو المدبرين عنها.

أما النموذج اللبناني، فيكاد يكون فريدا على المستوى العربي، إذ أن وزارة الثقافة فتية ولم تؤسس إلا عام 1993 ولا يزال دورها هامشيا في تسيير الحياة الثقافية، ولم تتعد ميزانيتها عام 2008 ما نسبته 0.5 % من مشروع الموازنة. ولذلك فإن هيئات المجتمع المدني هي التي تقوم بالحمل الأكبر. إذ تحتل - بحسب الدراسة - الهيئات المستقلة الأهلية في لبنان المرتبة الأولى على المستوى العالمي، من حيث عددها، نسبة إلى عدد السكان، ومن حيث أهميتها وفعاليتها. وتضيف الدراسة أن عدد هذه الهيئات قفز بالمئات في السنوات الأخيرة، مع تسلم الوزير زياد بارود، وهو أحد الناشطين الحقوقيين، رأس وزارة الداخلية.

لكن النشاط الأهلي اللبناني في المجال الثقافي الذي يشكل ظاهرة بحد ذاته لا يكفي لبناء سياسات ثقافية، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من وضع أساسات لها. وبالتالي فالتمويل متروك للجهات المانحة من أجنبية (أوروبية وأميركية) وعربية، لا سيما خليجية، حيث «يحظى لبنان برعاية عالية من الدول العربية والغربية على السواء، لا تقتصر على الاستحقاقات السياسية بل تشمل الثقافية أيضا».

وتشرح حنان الحاج علي، رئيسة مجلس إدارة «مؤسسة المورد»، «أننا حين نتكلم عن السياسات الثقافية فنحن لا نرصد فقط نشاطات وزارات الثقافة وإنما كل الهيئات والسلطات المعنية برسم هذه السياسات مثل البلديات ووزارات التعليم والبيئة والسياحة والرياضة، وغيرها. وهي الوزارات التي جعلت الأبحاث تتبع دورها في تشكيل الحراك الثقافي ورسم الملامح والخطط.

يعرف أهل «مؤسسة المورد» أنهم يقتحمون عش دبابير، ربما لهذا يدخلونه بحذر، وقد أصدروا توصيات في نهاية مؤتمرهم البيروتي، قالوا بعد مناقشتها في جلسة علنية إن ميزتها واقعيتها، وإن «المورد» لا توصي بمقررات نظرية غير صالحة للتطبيق، لذلك فثمة توصيات لاستكمال البحث باتجاه المزيد من الدول العربية، ومحاولة لإشراك خبراء حكوميين في مجال الرصد، كما أن مؤتمرا إقليميا سيعقد سنة 2012 لتقييم العمل. وستعمل «المورد» على نشر تقرير حول السياسات الثقافية في الدول التي ترصدها كل شهرين، أولها في نوفمبر 2010، كما ستعمل على إمكانية خلق «مؤشر للفعل الثقافي» يحتوي على معايير لقياس الفعل الثقافي في الدول الثماني، يتم تحديد المعايير وفقا للحوار والنقاش بين المسؤولين الحكوميين والناشطين الثقافيين المستقلين خلال عامي 2010 و2011.

هذا غيض من فيض توصيات طموحة، عملية وعلمية، لكنها تبقى رهن سخاء المانحين الغربيين الذين لا يعلم مدى رغبتهم في دفع المزيد من الأموال، في زمن انهيارات مالية تنذر بشح شديد.