محمد العباس: السعوديون لم يكتبوا الرواية السياسية حتى الآن

في ورقة ألقاها في «نادي جدة الأدبي»

محمد العباس («الشرق الأوسط»)
TT

قدم الناقد السعودي محمد العباس، بمناسبة اختتام فعاليات «نادي جدة الأدبي» للموسم الحالي، ورقة بعنوان «مدخل للرواية السياسية في السعودية» اعتبر فيها أنه لا توجد رواية سياسية سعودية بالمفهوم الصحيح للرواية السياسية، فهي بوصفها نوعا أدبيا، لا يمكن الإقرار بوجودها في المشهد، ما لم تمتلك القدرة على الإقناع، بكل دلالاته المنطقية والفعلية. وتعد قراءة العباس للرواية السياسية السعودية، من أولى الدراسات التي قاربت مفهوم العمل الروائي وعلاقته بالسياسة في السعودية.

واعتبر العباس أن أغلب الأعمال التي قدمت في مجال الرواية وتعرضت إلى قضايا سياسية كانت غير مقنعة من الناحية الفنية للبناء الروائي، مشددا على أن أغلب الروايات التي تعرضت للطرح السياسي كانت إما سيرة ذاتية، أو أعمالا روائية بنت شخصياتها على الصورة الإعلامية للأحداث التي تعرضت لها مثل حادثة احتلال الحرم المكي الشريف في عام 1979 وحوادث الإرهاب بعد عام 2001، وقدمت شخصيات روائية تفتقد الإقناع بدورها في تلك الأحداث.

وأشار الناقد السعودي إلى أن ضرورات اعتبار الرواية السياسية، كنوع أدبي، تستدعي تعادل مقومات الخبرة الفنية مع شمولية معاني التجربة الواقعية، وهو ما يعني أن كل تلك الإشارات الرمزية الذاهبة في اتجاه تسييس الصراع داخل الرواية في السعودية، لا تعفي المشهد من إنجاز رواية ذات قيمة سياسية واضحة المعالم، لتستحق التجنيس بمعناه الأدبي.

وأوضح ذلك بالقول: «يفترض أن الرواية السعودية تقوم على التصريح بالحوادث والأسماء والوقائع التاريخية. إنها قد لا تحتاج إلى تشكيل الملامح الطبوغرافية لفضاء السجن، أو حتى الاتكاء على قاموس السجالات السياسية اليومية. ولكن يصعب في المقابل تصور وجود رواية سياسية من دون أن يكون عصبها مشدودا إلى جاذبية شخصية المناضل السياسي، الذي يشكل قيمة مهيمنة بالمعنى النقدي».

البطل، وهو قطب العمل الروائي كما يرى العباس، يضع الروائيين السعوديين في مأزق حقيقي للرواية السعودية التي تطرح كرواية سياسية، حيث يمثل البطل خيارا يطرح إشكالية مرجعيات الروائي، ووعيه الذاتي بنموذجه المراد توطينه في النص، بمعنى أن الأحداث التي يعبر عنها بطل الرواية قد تتقاطع مع سيرة الروائي، فتكون «سيرة ذاتية» ولو مموهة. وقد تفارق حكايته لاعتبارات زمنية ومكانية ومضمونية فتكون بالتالي «سيرة غيرية» قابلة للتعديل والإضافة والتأويل، ووفق تلك الاعتبارات تتحدد طبيعة وظيفته ومكانته داخل السرد.

وفي موازاة غياب الشخصية السياسية الرئيسية في أعمال الروائيين السعوديين فإن الشخصية الأنثوية السياسية لا محل لها في وعي الروائيين والروائيات، إذ لا تحضر إلا كظل باهت للبطل الرجل، باستثناء «هيفاء» بطلة رواية «الرياض نوفمبر 1990» التي تتميز بنفس نضالي رمزي.

ويعتقد العباس أيضا أن الروائيات في السعودية لم يقاربن الرواية السياسية، إلا من خلال تضمين رواياتهن بإشارات عابرة لا تنم عن وعي أو اهتمام بالشأن السياسي، ولا تشير إلى رغبة حقيقية لتخفيف ذكورية التجربة النضالية.

وفي ظل غياب الشخصية الجاذبة فإن الروايات السعودية تستفيد من الأحداث في صياغة شخصية سياسية مرفوضة اجتماعيا وتضعها في سياقها الإعلامي. ويضيف: «إن شخصية (المجاهد) المنتمي إلى حركات الإسلام السياسي، لم يتم تجسيده في الروايات الحديثة إلا كإرهابي، وبصورة مسطحة، مع زعم واضح بأن التفاصيل المسرودة مستلة من الوقائع، أو هي حكاية من داخل الجماعة المتطرفة».

واعتبر أن الروائيين السعوديين لم يستطيعوا أن يشكلوا نموذجا روائيا مقنعا من واقع احتلال جهيمان للحرم المكي الشريف، في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1979 وما تولد عن ذلك الحدث المأساوي من متواليات عنفية تمثلت في تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) في أميركا، وتفجيرات 12 مايو (أيار)، و8 نوفمبر عام 2003 في الرياض، كما يتبين هذا الاتجاه التبسيطي في رواية «الإرهابي 20» لعبد الله ثابت، ورواية «الحمام لا يطير في بريدة» ليوسف المحيميد، ورواية «عين الله» لخالد المجحد، وهكذا. وكأن الروائي لا يمتلك إرادة التوغل في أعماق الواقعة ودلالاتها، أو مقابلتها على الأقل بمروية موازية، وهو تنازل محير، يجعل من روايته مجرد ملحق تفسيري لما تبثه الآلة الإعلامية.

ويتابع العباس تشريحه للرواية السعودية موضحا أن الرواية السياسية تنتمي بالضرورة إلى نسق الكتابة السياسية المبنية على أطروحة تعتمد بلاغة المحاججة والإقناع، أو تقديم رؤية عمادها الإغراء بأهمية القيم، والمبالغة في إمكانية تغيير العالم، انطلاقا من الواقع، مع مراعاة أنها يمكن أن تزدهر من خلال ارتباطها بتاريخ سياسي وطني مليء بالصراعات الآيديولوجية.

معظم الأبطال في الرواية السياسية في السعودية، كما يرى العباس، لا يلهجون بمعاني الحرية ورحاباتها، بقدر ما يراودون أنفسهم دائما بالاستقالة الطوعية عن قضاياهم، كما فعل «سليمان» بطل «الرياض نوفمبر 1990» أو كما تاب «بدر الشراحي» بطل «عين الله» بشكل استسلامي عن أوهامه الجهادية، ومن ذات المنظور تراجع «سليمان السفيلاوي» بمنتهى البساطة عن مغامراته الجهادية في «الحمام لا يطير في بريدة». وكذلك ارتد «سعيد» من دون أدنى أسف في رواية «رقص»، أما «هشام العابر» فقد انشق بشيء من التشفي في رفاقه على وعيه في «أطياف الأزقة المهجورة»، فيما انسل «فؤاد الطارف» من الحياة الحزبية، بانتشاء صريح في «شقة الحرية»، إلى آخر سلالة التائبين أو المستتابين.

ويخلص العباس إلى أن الرواية السياسية في السعودية التي لا تمتلك تاريخها السحيق كجنس أدبي، ولم تتشكل بعد تقاليدها الكتابية، تحاول أن تتغلب على الكثير من العوائق الموضوعية والفنية لتتمكن من طرح رؤية أمينة لجوانب مهمة من الصراع، ولكنها غير قادرة، حتى هذه اللحظة، أن تقدم صورة مقنعة تليق بطبيعة المرحلة، أو كاشفة لتراكمات وعمق التجربة، ليس بسبب محدودية الأفق الديمقراطي المسموح لها بالتحرك فيه وحسب، وانخفاض منسوب الحرية التعبيرية المعيشة على حد سواء، وإنما لأنها هي الأخرى تعبر عن صيرورة تشكلها الخاصة، التي تتناسب بشكل طردي مع حركة الحداثة الاجتماعية، بمعنى أنها في طور الانكتاب، وبالتالي فهي لن تكون إلا منصاعة، في مرحلتها التأسيسية الآنية إلى إيقاع الحركة التاريخية، وخاضعة بالضرورة إلى وابل من الإرغامات الفنية والموضوعية.

إن الصورة الهشة التي يبدو عليها مناضلو الرواية السياسية في السعودية، ليست بالنسبة إليه إلا انعكاسا طبيعيا لهيمنة طقس الخوف على الروائيين، وضآلة المادة المتعلقة بالحركة النضالية، أو بمعنى أدق عدم توافر مرجعيات مادية في هذا الصدد، إذ لا تتوافر أدبيات سياسية كما تتمثل في كتب المذكرات مثلا، أو الشهادات المتعلقة بالتاريخ السياسي، حيث تم محو آثار كل تلك الحقبة وطمسها في عالم النسيان، كما أنه لا يمكن للروائي في حالة تقليب مرجعياته السوسيو - ثقافية أن ينهل من الحروب مثلا، أو الحديث عن حركات تحررية مقاومة للاستعمار وهكذا، وبالتالي فهو لا يغترف إلا من التجارب المجهضة!