ابن خلدون .. هل كان معاديا للفلسفة؟

صور ابن خلدون طبائع العرب بشكل لن يرضي القوميين العرب المعاصرين وقد يجعلهم يشتعلون غيظا

غلاف الكتاب
TT

بروح الشاعر وهواجسه يعيد شاكر لعيبي قراءة ما يُسميه بالطفيف في الثقافة البصرية العربية في عمل جديد عنوانه «الفن والحرف الفنية لدى ابن خلدون» (مدبولي، القاهرة 2010)، بعدما كان قد قدم أعمالا مماثلة، في السنوات الأخيرة، لعل أهمها ما عرضه في كتابين سابقين هما «الفن الإسلامي والمسيحية العربية»، و«العمارة الذكورية»، جوار بعض مجموعاته الشعرية المعروفة مثل «عقيق مصري» و«عزلة الحمل في برجه».

الفرضية الأساسية للكتاب تقوم على أساس أن ابن خلدون يقدم في نهاية المطاف «مدينة فاضلة مكتملة»، قدَرُها النمو ثم الشيخوخة ثم الموت لكنها مدينة مرسومة بخطوط سوداء وبيضاء تقريبا، وسكانها لا يستطيعون إلا القيام بحرفة واحدة مستجيبين، ككائنات ثابتة وسلبية، لشرطي الانحطاط أو الازدهار، أي من دون إرادة واضحة وتصميم وفاعلية من طرفهم، مُلبِّين احتياجات خارجية لأنهم تقريبا من دون احتياجات روحية ويتصرفون بشكل محض عقلي، فالتأنق والرفاهية والسلوك الراقي وحرف الترف هي انعكاس لازدهار براني حسب قراءة المؤلف للمقدمة الخلدونية. يذكر لعيبي أن ابن خلدون لا يطرد أحدا من المدينة إلا النساء اللاتي لم يقل شيئا عن أدوارهن المكنة فيها، فلكلٍّ دوره ومساره: الصنائع برمتها بما في ذلك الحرف الفنية والدين والسحر والعلوم والآداب. لا يؤمن ابن خلدون بالحاجات الجمالية حسب لعيبي، غير أنه، وهو يرى عدم الإمكانية لمدينة لا «احتياجات تشكيلية» عميقة فيها، يعترف، عندما يتحدث عن الموسيقى عن خاصة، «بروعة الخلق الفني ولذته، وقبل ذلك في مرات نادرة يتوصل إلى وصف تخريمات الأشكال المجسمة بأنها: «قطع الرياض المنمنمة»، ويصف الخط الرفيع: بـ«جمال الرونق وحسن الرواء». مثل هذه التعبيرات النادرة تقرأ بصفتها أريحية واستجابة «للجميل» غير معهودين من طرفه، وليس فكرا فلسفيا جماليا واعيا.

ويلاحظ لعيبي ثلاثة أمور: الأول، عداء ابن خلدون الصريح للفلسفة، كما في الفصل الرابع والعشرين من المقدمة «في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها». الثاني، تصوره الثابت عن طبائع العرب الذي لن يرضي البتة بعض العرب اليوم أو لن يقبل به على الأقل (القوميون العرب) المعاصرون، وقد يجعلهم يشتعلون غيظا كما يقول المؤلف، وبشكل أخص أفكاره في «فصل أن العرب جيل من الخلقة طبيعي»، و«فصل في العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك»، و«فصل في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع»، وما يقال فيها عن وجود جماعة وعقلية ثابتين خارج التاريخ «العرب» لا تنطبق عليهم، أو لم تنطبق عليهم البتة شروط العمران. في التصور الخلدوني، كما في التصور الاستشراقي والبعض من الخيال الغربي المعاصر ثمة عرب بدو أقحاح ظلوا ثابتين في البداوة رغم مضي عدة قرون على كتابة المقدمة، ورغم انتقالهم وعيشهم منذ القرن الثامن الميلادي على أقل تقدير وحتى وفاة ابن خلدون في بداية القرن الخامس عشر، هذا إذا افترضنا أنهم لم يسكنوا أبدا قبل الإسلام في مدن. والأمر الثالث الذي يلاحظه المؤلف يقع في عدم فصم عرى فكر ابن خلدون عن المرجعيات والمصادر العربية التي طلع منها، لأن فكره بشأن العمران والصنائع يتابع بدقة مجهودات إخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) وابن مسكويه والتوحيدي بشكل خاص، ثم الطرطوشي وابن رضوان والماوردي وابن النفيس وغيرهم، أضف إليهم القزويني (توفي عام 1280 أو عام 1283) الذي يقدم في كتابه «آثار البلاد وأخبار العباد» تأملات اجتماعية وأنثروبولوجية متقدمة. ويذكر الشاعر العراقي أن «أحد فصول كتاب التوحيدي (ت 1010م) (الهوامل والشوامل) المتقدم في الزمن لا يمكن إلا أن يكون مرجعا أكيدا لابن خلدون، ويتوجب إعادة الاعتبار له لتقييم المشروع الخلدوني. إن الإخوان وابن مسكويه وتلميذه التوحيدي (المعتزلي) ثم القزويني كانوا مراجع أساسية لابن خلدون (ت عام 1406) مثلما كان المقريزي (ت 1441)، صائد الحياة الاجتماعية والمتوله بوصفها، تلميذا لكن بالمعني الدقيق للكلمة - وفي ذلك مغزى - لابن خلدون. ثمة مؤسسون أقدم من ابن خلدون أسهموا في بلورة (علم اجتماع) جنيني عقلاني في التراث العربي. علم اجتماع لا يتردد في المرور على جميع الموضوعات الحيوية بما فيها الحقل التشكيلي والجمالي وفق لحظته المعرفية».

لكن الشاعر لعيبي يخلص قائلا إن «عظمة ابن خلدون تقع في القدرة على تكوين حصيلة synthèse منظمة ومقنعة للغاية، مشددا عليها بصرامة بشأن علم الاجتماع البشري، وهي حصيلة لم يسبق أن كرس لها مؤلف واحد كتابا كاملا (مقدمة). لم يفعل ذلك الإخوان رغم شذراتهم الذكية ولا التوحيدي، المستند إلى تعاليم ابن مسكويه، ولا المقريزي اللاحق بعمله الوصفي للحياة الاجتماعية المصرية».