العرب يعانون كآبة جماعية

حركات ليبرالية وقومية رومانسية دينية من محمد علي باشا إلى بن لادن

TT

يحاول هذا الكتاب أن يجيب على سؤال لكثرة ما طرح أصبح مملا، لكن عدم طرحه يعد تقصيرا في تبيان وتحليل وتأريخ حقبة مؤثرة من تاريخ العالم العربي. وتعثُّر الإجابة، أو الإجابة النظرية التي تحتمل الخطأ، ككل إجابة نظرية تتبنَّى منهجا متعدد الاختصاصات، فهو ثقافي بقدر ما هو اجتماعي، وفكري بقدر ما هو إنتروبولوجي، ومحلي بقدر ما هو عالمي. فالسؤال عن المسؤولية في تعثُّر النهضة أو مشروع الحداثة العربية، يتطلب دراسة تجارب النهضة، وتحديد نجاحاتها وإخفاقاتها، وهذه الدراسة تتطلب، لتوثيق عراها، التدقيق في دراسة كل مرحلة من مراحل النهضة، وكل تجربة من تجاربها، والتنقيب عما غفل عنه الباحثون من أمور حيوية لم يتطرقوا إليها لاعتبارات عدة، ولأسباب شتى، إما حين يعتبر المحلل أن الحادثة غير مؤثرة ولا تستحق الذكر، وإما لضمور معرفي في معارف شتى لا يستطيع الباحث الربط بينها.

يتتبع الكاتب معركة التحديث منذ تجربة محمد علي باشا في أوائل القرن التاسع عشر، مرورا بالتجارب الإصلاحية الدينية في الأزهر والنظام التعليمي، كذلك تجربة جمال عبد الناصر، وصولا إلى المرحلة الراهنة التي بدأت تتبلور، كما يقول المؤلف، على أيدي عمالقة آسيا.

طوال قرن ونصف قرن، ظل السؤال حول تعثر النهضة، أو مشروع الحداثة العربية مشروعا، لأنه في ضوء الإجابة عنه تحسم جملة قضايا دفعة واحدة، لا على الصعيد المفاهيمي فحسب، بل على صعيد العمل التنظيمي أيضا. وأصبح السؤال أكثر إلحاحا إثر أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ليتحول من مجرد مقاربة استراتيجية إلى سؤال معرفي بامتياز، لأنه فجر مجموعة أسئلة حارة لم يجد الغرب لها أجوبة مقنعة. وكانت الإجابة عن السؤال المتفجر: «لماذا يكرهوننا»؟ ولماذا تنتج الأنظمة المعتدلة التي تحالفنا هؤلاء المتطرفين الذين يكنون لنا (للغرب) كل هذه الكراهية؟

ومن رحم سؤال الكراهية توالدت أسئلة أخرى: من هم الأصوليون الإسلاميون، ما عقيدتهم وتراكيبهم؟ وهل هناك حرب غير معلنة بين الإسلام والغرب؟ ولماذا لم يستطع العرب والمسلمون التأقلم مع قيم الديمقراطية والحداثة؟ هل العلة داخل هذه الحضارة أم في الظروف الخارجية المحيطة بها.

قبل نحو 200 عام من بروز ظاهرة بن لادن، جرت في مصر تجربة مناقضة تماما لتجربة بن لادن: البناء بدل التدمير، الإصلاح بدل الثورة، التطوير بدل التكفير. وكان بطل هذه المحاولة ضابط ألباني في الجيش العثماني هو محمد علي باشا الذي حكم مصر في الفترة 1805-1848، حقق خلال هذه السنوات إنجازات كبرى، ونقل مصر إلى مرحلة الحداثة. بنى صناعة قوية، وأعاد تنظيم الزراعة، ونشر التعليم، وبنى جيشا قويا نجح في السيطرة على المشرق العربي وهُزم أمام تحالف أوروبي واسع، أدّى في نهاية المطاف إلى وقف هذه التجربة وأفولها. فتجربة الباشا تعرضت للضرب من الخارج، فالدول الأوروبية لم تمنح تجربة محمد علي فرصة النضج والاختمار، لأنها كانت تخطط أصلا لاحتلال المنطقة العربية برمتها، وبديهي أن تفضل الدول الاستعمارية الأوروبية وجود قوى ضعيفة ومتأخرة ومشتتة في الشرق.

إن سقوط تجربة التحديث في البلدان الإسلامية، التي كانت ذات مرة قوية، وفق المؤلف، يكمن في عدم تقاسم هذه البلدان التحولات الكبيرة التي شهدها الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا يكمن في فشل داخلي سبق أن حدث في المجتمع الإسلامي، ولا يكمن، على وجه التأكيد، في ظلامية معينة في الدين الإسلامي. أما الاضطراب في التطور، فحدث نتيجة أحداث خارجية لا سابق لها. وقبل أن يطرح السؤال المتعلق بـ«لماذا هذا الفشل»؟ يجب أن نفهم لماذا حقق الإسلام نجاحا عظيما طوال ألف عام.

إن النهضة العربية الإسلامية قامت في أعقاب سقوط ما كان يمكن أن يشكل الآخر المنافس. فالحرب الطويلة استنزفت كلا من إمبراطورية الفرس والإمبراطورية الرومانية، فمباشرة بعد قيام دولة الإسلام أجهز العرب وبضربة واحدة على إمبراطورية فارس، ثم دفعوا بحدود إمبراطورية الرومان بعيدا عن المجال الحيوي لدولتهم الفتية. وحدث الأمر نفسه في النهضة الأوروبية الحديثة، إذ تزامنت انطلاقتها الأولى في القرنين الثاني والثالث عشر مع بداية التراجع الخطير الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية، ولولا سقوط الأندلس الإسلامية في إسبانيا، وتدهور موازيين القوى بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، ولولا انتقال العلوم العربية إلى أوروبا، لكان لأوروبا منافس خارجي وعالمي وخطير قادر على إحباط نهضتها.

يرى المؤلف أن السؤال حول الـ«لماذا» وحول أدوار الداخل والخارج، لم يعد له معنى بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي شهدت سقوط الدول العربية في قبضة الاستعمارين البريطاني والفرنسي، فبانت الصورة بأجلى صورها، الخارج هو المسؤول الأول والأخير عن كل الكوارث التي أحاقت بالأمة العربية. فلندن وباريس وموسكو القيصرية نسجت مؤامرة، كشفت موسكو البلشفية النقاب عنها عام 1917، توزعت بموجبها بريطانيا وفرنسا المنطقة العربية، هذه المؤامرة ستتسبب في ندوب وجروح لن تشفى منها العقلية العربية طوال فترة طويلة. لقد قدمت دليلا لا يدحض على أن الغرب لا يكن للشرق سوى الشر، وبالتالي يجب رفض كل ما يأتي من هذا الغرب.

الضحية الأولى لهذه القناعة، كانت التجربة الليبرالية العربية التي دامت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، فهذا التيار كان عليه أن يقوم بمهمتين متناقضتين: شن الحرب على الغرب من أجل الاستقلال القومي، والدفاع عن الغرب من أجل الحرية. وهذه مهمة أثبتت في النهاية أنها مستحيلة وأسفرت عن تعثر التجربة برمتها. فالغرب أثبت مرارا وتكرارا أنه لم يأت إلى الوطن العربي لتحديثه بل لاستعماره، وهو أجهض بنفسه التفتح الليبرالي في مصر حين أسقط حكومة ليبرالية بقوة الدبابات.

كان طبيعيا نتيجة الفشل الليبرالي أن تدير التيارات القومية ظهرها لليبرالية، فاتجهت إلى القومية الرومانسية، وراحت تصوغ مفرداتها حول الفرد والأمة كي لا تستورد مفاهيمها من العدو، فصاغت السياسات التي أدت في النهاية إلى نشوء الأنظمة السلطوية، وبالطبع أدارت الحركات الإسلامية ظهرها لكل ما يشتمّ منه أنه حداثة غربية، مما مهد الطريق أمام سيطرة الأنظمة الشمولية.

يرى المؤلف أن اليهود دخلوا على الخطوط الاستراتيجية للصراع في المنطقة منذ عشرينات القرن العشرين مع وعد بلفور، الذي اعتبر لاحقا جزءا من اتفاقية «سايكس - بيكو». وباتوا منذ ذلك الحين جزءا مميزا من الصراع الدولي المحلي في المنطقة، لأنهم اختاروا دوما أن يكونوا قاعدة متقدمة للقوة الإمبريالية الغربية المهيمنة على الشرق العربي، مع أن تاريخ العلاقات اليهودية - الإسلامية كانت تعايشا سلميا في أسوأ الأحوال، وتلاقحا منتجا للغاية على كل المستويات في أفضل الأحوال.

لقد أدت نكبة فلسطين إلى خلق مناخات التشدد في المنطقة، وهذه تشمل الحركات الليبرالية والقومية والدينية، فالطريقة التي أقام بها اليهود دولتهم في فلسطين على رفات الفلسطينيين فتحت جرحا وربطت مسألة الشرعية السياسية العربية ربطا محكما باستعادة حقوق الفلسطينيين. وحين نضيف إلى هذا الجرح تحالف إسرائيل الدائم مع القوى المسيطرة على المنطقة، تزداد التعقيدات ويصبح اليهود الخارج، لها دورها المحوري في الأزمات العربية السابقة واللاحقة.

يرى المؤلف أن البحث عن مسؤوليات الداخل والخارج هو بحث مستمر، أو يجب أن يكون مستمرا وحاضرا دوما في تحليل معضلات الوطن العربي والعالم الإسلامي. لكن الموقف الغاضب نحو الغرب والنظام العالمي اليوم سببه المخاوف المعششة منذ زمن طويل من خطر الابتلاع على يد الغرب، فلن يرجى الكثير من التغيير إلى أن يتم تبديد هذا الخوف، لأن هذا الخوف يطال كل شيء تقريبا: الاستقلال والهوية، وفي بعض الأحيان الإحساس بالخطر على الوجود نفسه. وهذا الرعب يكمن في أساس نزعة العنف الانتحاري التي قد تتحول إلى ظاهرة عامة، أو إلى أسلوب من أساليب العمل السياسي في المنطقة العربية. فقد وصل العرب بأنفسهم إلى حافة الانتحار، والعالم العربي لم يعد منطقة أزمة عامة، بل منطقة أزمات مختلفة ومتعددة. والأمة العربية، كما يقول محمد حسنين هيكل، ليست في حالة ملل، بل في حالة اكتئاب جماعي.

الانتحار والاكتئاب وجهان لعملة واحدة، ووصول العرب إلى هذه المرحلة من الأزمات النفسية والسياسية لم يكن بالأمر المفاجئ والمستغرب. فعلى مدى قرنين، كانت مشروعات النهضة تُضرَب أو تجهض، الواحد تلو الآخر، من التحرر القومي إلى التنمية الاقتصادية، ومن الوحدة العربية إلى تحرير فلسطين، وصولا إلى تعثر المشروعات الإسلامية.

بدأ الشرق الإسلامي في السنوات الأخيرة يشهد بوادر تغييرات كبرى، تطاول أسس النظام الإقليمي الذي بني على عجل في أعقاب هزيمة 1967، وانهيار العراق في عام 2003، والقسمات الرئيسية لهذه التغييرات هي في التحولات الإسلامية التي ترافقت مع تحولات مماثلة في بنية النظام العالمي لصالح مجموعة العشرين التي تؤدي فيها الصين وآسيا دورا رئيسيا يحد من التفرد الأميركي. فقد نستنتج أن الظروف الموضوعية في السنوات المقبلة أقل قسوة على النهوض العربي مما كانت عليه في القرنين الماضيين.

الحاضر لا يكرر الماضي لكنه قد يتشابه معه وكذلك المستقبل. ومهمة المحلل السياسي والمؤرخ أن يعرف ويحدد أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين الماضي والحاضر والمستقبل أيضا. والمؤلف عمل على ذلك بعرضه المستفيض لأوجه التشابه في مراحل كثيرة من التاريخ العربي، خصوصا أن السؤال عن كيفية خروج العرب من المأزق التاريخي لم يعد سؤالا عربيا يجب أن يجيب عنه العرب وحدهم، فالتفاعلات الداخلية العربية باتت وثيقة الصلة بأمن عواصم العالم، وبرامج التربية والتعليم التي تدرس في العالم الإسلامي باتت جزءا من الأمن العالمي.