الشعر حين يكون «ضربة الجزاء الأخيرة»

الشاعر السوري محمد عضيمة في ديوانه التاسع «أصل بعد قليل»

«أصل بعد قليل» المؤلف: محمد عضيمة الناشر: «دار التكوين»، 2010
TT

هذه هي المجموعة الشعرية التاسعة للشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عضيمة (دار التكوين - 2010) ويظهر فيها وقد تعب من الشغب اللغوي والنضال على الجبهة الشعرية المضادة.

ونجده في ديوانه هذا وقد قذفت به أمواج التعبير على شواطئ القصيدة الماغوطية، أو القصيدة التي سميت باليومية أو الشفوية، ويظهر قريبا جدا من مواطنه بندر عبد الحميد صاحب قصيدة «كانت طويلة في المساء»، ومن نزيه أبو عفش في بعض قصائده ومنذر مصري في ديوانه الأول. المجموعة تقع في 300 صفحة لكن قليلها يغني عن كثيرها، وهي محكومة بنمط وشكل واحد، يغازل بها الأفكار مشيرا إليها من غير أن يقطفها أو يطبخها. يثرثر عضيمة أحيانا أو يخبر أو يستطرف أو يهذي، بكامل قواه العقلية، القصائد لا تزال خاما فلزا، وتنام في قالب شعري هذا شكله: صفحة من الشعر النثري تليها صفحة يخاطب فيها صديقا (لعله القارئ) بنثر، النثر والشعر لا يختلفان كثيرا، سوى بالتقطيع والتوزيع على الأسطر والفضاءات الخالية والبيضاء:

«على أية حال/ الحق وشركاؤه/ في ورطة والباطل ليس بأفضل حال/ قال كذلك/ قلنا كذلك/ قالوا كذلك: والباطل ليس بأفضل حال».

وكل القطع والشذرات الشعرية والانطباعات والأقوال تنتهي بترديد الجملة الأخيرة، التي تأتي دويا لصيحة أو سجعا كسجع الحمام يأتي من بعيد، وأحيانا تكون تكرارا يحاول أن يصنع موسيقى ختامية لكنها تتكرر في كل القصائد وتصيرها نمطا سائدا وطاغيا. «لم يبق للشعر سوى ضربة / الجزاء الأخيرة/ تنفذها يمناك في المقهى/ أو مع الأصدقاء في الطريق/ لم يبق للشعر/ سوى/ ضربة الجزاء الأخيرة».

الجملة الأخيرة المصداة المتلاشية صوتيا قد تكون من أعراض التعب واليأس ووعثاء السفر والشعر وهي تحصيل فائض وبطر شعري وفكري، وما العنوان الفصيح للديوان سوى دلالة على هذا التعب والرهق. تتكرر في خاتمة القصائد القصيرة الجملة الأخيرة وجمل وصور شعرية وأسئلة مثل «من أنت؟» وادّكارات يبدو الشاعر مولعا بها «ابحث عن الطرقات التي من جيلي وجيلك/ ومن جيل الأولاد» وأيضا تبدو القصائد مولعة بتصغير الزمن اليومي وتذويبه في الهجري والميلادي لصنع تضاد ومفارقة «الصبي الواقع في الساعة السابعة إلا ربع/ هجرية» أحيانا نعثر على مفارقة لغوية تتأتى من تضاد العطف «شعره يزلزل الجبال والنهود»، أو قلب جمل سائرة وبعثها بصفات جديدة «صبية بعمر الخمور» علها تنعش القراءة أو تحفزها.

مقطعات محمد عضيمة تخلط عن عمد أو عن لا مبالاة العامية بالفصحى، إن اقتضت ضرورة ما، لعلها ضرورة مشابهة الحياة والشخصيات، فقصائده أحيانا لوحات قصصية خاطفة، كما أنه يزهد بقواعد اللغة والنحو، ويظهر برما بالآداب واللياقة، إذ نفاجأ بكلمات خشنة في قصائده، لكن من غير أن تصنع جمالا أو تقنعنا بوظيفة خشونتها «عندما ينفقع الجورب أشعر بشيء ما حدث بينه وبين إحدى الأصابع»، وهناك أمثلة أخشن وأكثر فظاظة.

تعب شعراء القصيدة الضد السورية من المغامرات ومن تجريب الأشكال وركنوا إلى البلاغ الشعري وإعادة إنتاج المعاني ولعل الشاعر جودت حسن لا يزال مثابرا على المرود، خاصة في قصيدته «أطول من نداء» وهاهو زميلهم عضيمة يبلغنا بلاغا واضحا بأنه سيصل بعد قليل، مكتفيا من الغنيمة بالإياب. ديوان «أصل بعد قليل» يصل إلى القارئ مباشرة، وهو انطباعات سريعة وخام ومسودات عن العالم والناس والشوق وأسئلة مترفة.. بعض النصوص تحتاج إلى رأفة العناية الشعرية المشددة وأكثرها يحتاج إلى التحرير.. يصل عضيمة مضرجا بالحنين إلى الوزن والإيقاع في الشعر، والشوق إلى قول الرأي والنقد الاجتماعي في النثر والشعر.