تعلمت أن أجعل القراءة نمط حياة

TT

القراءة، في أغلب الحالات، تركة يرثها القارئ من أقرب المقربين إليه ممن كان لهم كبير الأثر في تكوين شخصيته، والأمر قد يكون محاكاة للأب، ونوعا من إعادة إنتاج سلوك سابق.

أعود بذاكرتي للبحث عن نموذج حاولت محاكاته فلا أجد، حالتي لا تنطبق عليها هذه القاعدة، فالقراءة لدي نشأت من الرغبة في أن أصبح كاتبا في يوم ما، ولذلك انخرطت في التهام مختلف الكتب المتوفرة في مكتبات «حي الأحباس» بالدار البيضاء.

يمكنني أن أربط بداية قراءاتي بثلاثة أسماء وأنا لم أتجاوز الرابعة عشرة من عمري: مصطفى لطفي المنفلوطي الذي تشدك كتبه بأغلفة تعلوها صورته بشاربه المعقوف قبل أن تشدك برومانسيتها الحزينة وأسلوبها القوي؛ جبران خليل جبران بعوالمه السحرية ورموزه المسيحية التي يصعب على مغربي مسلم فهمها في هذه السن، ومع ذلك تشعر بأنه قريب منك؛ وأخيرا الكاتب المصري مصطفى محمود الذي كانت كتبه تملأ الواجهات، ويعالج فيها مواضيع فلسفية معقدة بأسلوب يشد القارئ لسهولته. كُتَّاب آخرون ساهموا فيما بعد في تأثيث مخيلتي وتوسيع معارفي: طه حسين، عباس محمود العقاد، أحمد أمين، نجيب محفوظ والقائمة طويلة.

في مرحلة ما ولتعميق تمكني من اللغة الفرنسية، قررت الانخراط في المركز الثقافي الفرنسي، كما انخرطت في خزانة المعارف العمومية لإبقاء التواصل قائما مع الكتاب العربي. كان هذا القرار بداية النضج والقدرة على نقد الذات والتفكير بما ستؤول إليه الأشياء إذا ما لم تحسم في محطة ما. دوستويفسكي الروائي الروسي هو عنوان قراءاتي في هذه المحطة، كان له طعم خاص، كنت أقرأ له وأتساءل: ما الذي يعطي لهذا الكاتب كل هذا العمق، ويجعلني أقرأ له دون ملل. كان إعجابي به كبيرا، لدرجة بدأت معها أشك في قيمة الروايات الفرنسية التي قرأتها سابقا، أو في وقت لاحق: بالزاك، فلوبير، ستيندال، زولا... كل هؤلاء، أضحوا بالنسبة لي صغارا بالمقارنة مع دوستويفسكي الذي أصبحتُ أعرف شخصياته، وأتماهى مع بعضها وأرفض بعضها الآخر. قرأت له «الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» و«الممسوسون» و«الأبله»، كل رواية تؤكد الارتسام الذي تركته لدي الرواية الأولى وهي أنني أمام روائي لا يضاهى. السبب ليس موضوعيا فحسب بل هو ذاتي كذلك، فدوستويفسكي كان شديد الحيرة شكاكا ومؤمنا متعصبا في الآن ذاته، وكان مقامرا كبيرا مضطربا ومصابا بالصرع.. كل هذه العوامل مكنته من أن يقدم عن الحياة صورة متشائمة مأساوية. هل لأنه استطاع أن يفضح الحياة ويمزق قناعها ويكشف عن وجهها الحقيقي فنال إعجابي؟ ربما كان هذا هو السبب، وهو نفسه السبب الذي جعلني أُعجب بمقامات الحريري، لأنها هي الأخرى تكشف لنا أن الشر في الكثير من الحالات هو الذي ينتصر، وأن الحياة غير عادلة في الكثير من مصائرها. فيما بعد، قرأت كبار الكتاب الذين لا يَخفى تأثرهم بدوستويفسكي، قرأت هرمان هيسه وستيفان زفايغ وكنوت هامسن وكمال ياشار... كما قرأت في ترجمته الفرنسية دائما نيكوس كازانتزكيس الذي شدني إليه عنوان روايته «المسيح يصلب من جديد». اطلعت على عنوان هذه الرواية أول مرة وطرحت على نفسي السؤال التالي: «وهل صُلب أصلا لكي يصلب من جديد؟» جواب الروائي اليوناني كان رائعا ومدهشا، ليتلو ذلك قراءة أغلب رواياته الأخرى «الحرية أو الموت»، «آخر إغواء للمسيح» «ألكسيس زوربا».

كانت قراءاتي فكرية كذلك، ففي مجال النقد، قرأت للمدرسة الفرنسية ممثلة بالفيلسوف غاستون باشلار الذي أعتبره مدرسة في النقد والأبستمولوجيا، كما قرأت لرولان بارت وفوكو ودريدا. أما بالنسبة للإيطالي أمبرتو إيكو فبحكم اهتمامي بالسيميائيات، قرأت أغلب مؤلفاته، وبقدر ما كان بارعا في التنظير فإنه في الكثير من التطبيقات لم يكن يقنعني، بالمقارنة مثلا مع الفيلسوف روني جيرار الذي قرأت له بشغف لمقدرته التأويلية المدهشة، كما قرأت لإدغار موران وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وعبد الله الغذامي ومحمد مفتاح وجابر عصفور وسامي سويدان. فنهاية أي كتاب كانت بداية لكتاب آخر، والقاعدة التي خرجت بها هي: أنه يلزمني أن أقرأ أكثر مما أكتب لأكتب أفضل مما أقرأ.

* ناقد من المغرب