موقع السيرة الذاتية في الثقافة العربية

نقاد وأدباء سوريون ولبنانيون وفلسطينيون يبحثون في طبيعتها وصدقيتها وموقعها في الرواية

«السيرة الذاتية في بلاد الشام» تأليف جماعي الناشر: دار «المدى»
TT

يضم هذا الكتاب (السيرة الذاتية في بلاد الشام)، الصادر عن دار «المدى»، المحاضرات التي ألقيت في الندوة التي نظمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق، يومي 19 و20 يونيو (حزيران) 2007، حول السير الذاتية في بلاد الشام بوصفها موضوعا للدراسة، ومصدرا للبحث في العلوم الإنسانية. وقد شارك في الندوة مجموعة من الباحثين العاملين في هذا المجال من المعهد المذكور، ومن فرنسا ومركز الوثائق التاريخية في دمشق. وغيرهم من النقاد والأدباء السوريين واللبنانيين والفلسطينيين.

يرى محمد كامل الخطيب في بحث بعنوان «السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث»، أن السيرة الذاتية أكثر من مجرد «سرد استرجاعي لزمن فردي»، «بحث عن زمن مفقود» أو «حنين إلى ماض»، فرحلة طه حسين من كتاب القرية إلى الأزهر إلى الجامعة إلى باريس، تشابه، إن لم نقل هي، رحلة المجتمع والثقافة العربيين على خط الرحلة نفسه. وبفضل ذلك فإن السيرة الذاتية بدأت تحقق لنفسها، مكانا متميزا، ووجودا كميا ونوعيا بارزا في المجتمع والثقافة العربيين. ومن حيث طبيعة الكتابة السيرية، يشير الكاتب إلى أن السير الذاتية الحديثة تتميز بأنها تغوص في داخل الشخصية، وتعري النفس وخلجاتها. غير أنه سرعان ما يستدرك بالقول إن من الصعب كتابة سيرة ذاتية جوَّانية، في ثقافة لا تميل إلى تعرية الذات و«الاعتراف» بأفعالها غير المستحبة اجتماعيا، وهذه الثقافة التي توصي بـ«إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا».

لا تتردد هذه النغمة في الكتاب ثانيا، إلا في الدراسة التي قدمتها يمنى العيد عن «المعرفة بين الحقيقي والحقيقة في السيرة الذاتية أو/و في السيرة الذاتية الروائية»، إذ تقرر هنا أن النوعين كليهما ينتجان معرفة بالواقع، بفضل انتماء كليهما إلى السرد، لكون السرد، الروائي خاصة، يشكل قناعا يسمح بتقديم معرفة بالذات أكثر جرأة وحرية، في ظل ثقافة تخضع فيها الكتابة لسلطة السائد الذي تتحكم به رؤية معيارية تحاكم سننها وتقاليدها وأعرافها من يتجرأ على الكلام. لكن كيف تقدم السيرة الذاتية هذه المعرفة؟ كيف تقدم السيرة الذاتية المرتبكة والخائفة من سطوة السائد معرفتها بالواقع؟ إن ما تقدمه السيرة الذاتية، أو السيرة الذاتية الروائية ليس الحقيقة، تقول الناقدة، بل هو الحقيقي المنسوب إلى الفني، والمناط بقدرة هذا الفني واشتغاله على الإيحاء.

بالمقابل يبحث بطرس حلاق عن موقع السيرة الروائية في بلاد الشام من الرواية العربية. ويكتشف من خلال دراسته لثلاثة أعمال، هي «الساق على الساق في ما هو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق، و« ذاكرة للنسيان» لمحمود درويش، و«سأكون بين اللوز» لحسين البرغوثي. «الساق على الساق» هي أول رواية عربية، بالمعنى الحديث، قبل روايات الاقتباس والروايات الفلسفية والتاريخية، وهو استنتاج خطير يلغي التأريخ الأدبي السابق الذي وضع «غابة الحق» لفرنسيس المراش في الصدارة، حيث كانت بدورها قد أزاحت «زينب» لمحمد حسين هيكل، بعد أن تربعت زمنا طويلا على عرش الريادة الروائية. وإن صح ذلك، يقول الدكتور حلاق، تشكل السيرة الذاتية في بلاد الشام، وحتى في بلاد العرب، مطلع الفن الروائي الحديث عندنا، في الدراستين التاليتين اللتين قاربتا النصوص السيرية ذات المنحى الروائي، لكل من الدكتور جمال شحيد، الذي درس سيرتي جبرا إبراهيم جبرا في «البئر الأولى» وفي «شارع الأميرات». وإريك غوتييه الذي درس سيرتي عبد الرحمن منيف في «أم النذور» وفي «سيرة مدينة: عمان في الأربعينات». تناول الناقدان طبيعة المادة المقدمة في سيرة الكاتبين، حيث رأى الدكتور شحيد أن جبرا عاد إلى الطفولة في «البئر الأولى» دون أن يفلسفها، أو يعقب عليها، في حين حاول أن تكون «شارع الأميرات» تتويجا لحياته كلها. أما عبد الرحمن منيف، حسب غوتييه، فقد أراد أن يقدم للقارئ لقطات من ذاكرته، وهذه اللقطات تركز على حدث واحد أثر فيه تأثيرا عظيما، وفي قراءته للسيرتين يستخلص الباحث أن أحد العناصر البارزة فيهما هو التركيز على سلطان الديني والمعتقدات الدينية، والعادات الشعبية ذات الطابع الديني على المجتمع آنذاك. هل كان لهذه التقاليد تأثير ظاهر في حيلة ونصوص الكاتب؟ لا تجيب الدراسة عن السؤال، أو هي تتركه مفتوحا لدراسات أخرى.

في الجانب الآخر التاريخي من الأبحاث المقدمة إلى الندوة، يدرس ماهر جرار مذكرات المثقفين الإنجيلين العرب. تبدو دراسة جرار كمقدمة، أو كخاتمة لدراسة أشمل لمذكرات أسعد الشدياق، وهو شقيق أحمد فارس الشدياق، وفارس الخوري، وأنيس المقدسي، وجبرائيل جبور، وكمال الصليبي وأنيس الصايغ وإدوارد سعيد وجين سعيد ووداد قرطاس، ويرى جرار أن هذه المذكرات تعكس بذورا جديدة لإحياء الروح، وتحمل كرها لتزمت الكنيسة المحلية وتقوقعها، كما ينوه الباحث بالدور المهم الذي لعبه الإنجيليون العرب في تجديد اللغة العربية. ويقدم عصام نصار دراسة بعنوان «المذكرات والسير الذاتية مصدرا لدراسة تاريخ القدس أواخر العهد العثماني»، ويرى أن اختياره لدراسة المذكرات ناجم عن أن غالبية السرديات التاريخية حول القدس تواجه مشكلة تتمثل في اعتمادها، إلى حد كبير، على الخرافات التي تم تحويلها إلى ذاكرة جماعية، وإن هذه الروايات أو السرديات هي جزء من التخيلات التاريخية، وليس من التاريخ. ولهذا يرى أن مذكرات الناس العاديين - وليس السياسيين - تعتبر مصدرا مهما من مصادر دراسة تاريخ القدس الحديث، إضافة إلى عدد من الصور الفوتوغرافية من الزمن نفسه، «حيث تعكس الصور كيف أثرت الحداثة على الحياة اليومية للناس» في القدس طبعا. غير أننا لا نحظى في الكتاب إلا بصورة واحدة تبين استسلام مدينة القدس للبريطانيين، مع التنويه بتاريخ الصورة، واسم الشخص الذي كانت بحوزته، وهو الموسيقي المقدسي واصف جوهرية، كاتب إحدى المذكرات التي يعتمد عليها الباحث، بجانب مذكرات الشيوعي نجاتي صدقي، والمربي خليل السكاكيني، والجندي العثماني إحسان ترجمان.

وفي المصادر أيضا يدرس عمار السمر المذكرات والأوراق الخاصة «المحفوظة» في مركز الوثائق التاريخية بدمشق. يفرق الباحث في البداية، بين المذكرات والأوراق الخاصة، فيقول: «إن كاتب المذكرات كثيرا ما يحاول إبراز دوره الإيجابي، ويحاول كتمان بعض الحوادث، لحماية سمعته ودوره في التاريخ، أما الأوراق الخاصة فتقدم مادة خام غنية بكتابة السيرة الشخصية والأحداث التي عاصرتها. ثم يلقي الضوء على مجموعة أوراق نبيه العظمة، وهو من السياسيين السوريين البارزين منذ بدايات القرن العشرين حتى الخمسينات منه، يلي ذلك عرض لمجموعة أوراق عادل العظمة شقيق نبيه التوأم، كما يفهم من تاريخ ميلاده، وقد شغل أيضا الكثير من المناصب السياسية والإدارية في سورية في الزمن ذاته، وبفضل ذلك يوجد في أوراقه الكثير من الوثائق والتقارير الرسمية. يلقي الباحث ضوءا آخر على أوراق نزيه العظمة وفخري البارودي وسعيد عودة ونسيب البكري وغيرهم من السياسيين. ونقرأ لماهر الشريف دراسة في مذكرات أحمد الشقيري، الذي يرى الباحث أنها ترقى، من حيث الأهمية، إلى المرتبة الثالثة بعد «الأيام» لطه حسين، و«حياتي» لأحمد أمين. بل إنها تتفوق على الكتابين المذكورين في الوصف السياسي والعملي. غير أن الباحث يشكك أثناء البحث في صدقية وأمانة وصراحة هذه المذكرات، دون أن يعود لتوضيح الأسباب التي حدت به إلى وضعها في بداية بحثه، ذلك الموضع الرفيع في التاريخ الثقافي العربي. وتبحث الفرنسية آن لور دوبون في مذكرات جورجي زيدان، فترى أنها تقرأ على مستويين، الأول هو ما عاشه المؤلف، وكيف عاشه. والثاني هو دراسة شؤون الطبقة الوسطى التي خرج منها المؤلف، ورفعها لتكون نموذجا للمجتمع المتطور الذي يصبو إليه. بل إن شهادة زيدان ترينا السياق الذي ترعرعت فيه مقولة النهضة والجو الفكري الذي حملته، أي كيف يستطيع المرء أن ينفتح على الحضارة الحديثة، وأن يحافظ على هويته في آن واحد. أما ريم منصور الأطرش فتقدم عرضا لتجربتها في تحرير مذكرات أبيها، مثل رضوان الأتاسي الذي يعرض تجربته في تحرير مذكرات جده هاشم الأتاسي. مع التنويه إلى إشكال تقني في مقالة ريم منصور الأطرش، حيث تورد في بعض الهوامش إشارات إلى مقالات مكتوبة في 2008، أي بعد تاريخ انعقاد الندوة المذكورة بعام. أما أنيسة عبود فتكتب عن «كتابة النساء بين الشكوى والاحتجاج».

يميل معظم المشاركين إلى التأكيد على قوة حضور السيرة الذاتية في الثقافة العربية، بينما يميل قيس الزرلي إلى التأكيد على جدة نوع المذكرات في الأدب العربي (ينسب النوع إلى الأدب)، ويقول إن ترجمة مذكرات عدد من الكتاب الغربيين، منذ نهاية الفرن التاسع عشر، لعبت دورا حاسما في تطوير هذا النوع من الكتابة الشخصية.

غير أن التناقض الذي بقي دون حل هنا، هو شبه الاتفاق على القول بصدارة «الأيام» لطه حسين، التي نشرت في العشرينات من القرن العشرين، والقول بوفرة السير الذاتية من بعدها كما، ونوعا.