محاكم التفتيش لم تغب من الذاكرة الجماعية.. ولا تزال آثارها عالقة في النفوس

ي لماذا أخرست الكنيسة الكاثوليكية أصوات المعارضين على مدار قرون؟

تاريخ محاكم التفتيش المؤلف: هنري تشارلز لي
TT

أخيرا ترجم الفرنسيون الكتاب الكبير للمؤرخ الأميركي هنري تشارلز لي عن محاكم التفتيش، الذي يعتبر أحد المراجع الأساسية عن الموضوع إن لم يكن المرجع الأساسي. وقد انطلق المؤلف من التساؤل التالي: لماذا أخرست الكنيسة الكاثوليكية أصوات المعارضين أو المنشقين على مدار عدة قرون؟ والجواب هو: لأنها تحولت إلى سلطة اقتصادية وسياسية ضخمة وتخلت عن مبادئ الإنجيل الذي يمجد الفقر والزهد بهذا العالم الأرضي. وككل سلطة فإنها لم تعد تستطيع سماع أي نقد، بل وكل من ينقدها أصبحت تصفه بـ«الهرطيق» الزنديق لكي تستطيع القضاء عليه. كل مفكر مسيحي يدعوها للعودة إلى بساطة الإنجيل وحب الفقراء وعدم الانحراف عن المبادئ الأخلاقية كانت تعتبره عدوا، وبالتالي تسعى لتصفيته تحت اسم: الزنادقة. هذه باختصار شديد قصة محاكم التفتيش.

لقد كرس المؤلف كتابه هذا للتحدث عن موضوع طالما شغل المثقفين في الغرب الأوروبي - الأميركي، ألا وهو محاكم التفتيش السيئة الذكر، والتي طالما قمعت العلماء والمفكرين من كوبر نيكوس، إلى جيوردانو برينو، إلى غاليليو، إلى ديكارت، إلى معظم فلاسفة التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر بل وحتى التاسع عشر فيما يخص إسبانيا والبرتغال. هذا ودون أن نذكر الناس العاديين الذين راحوا بمئات الألوف أو ربما بالملايين.

ومحاكم التفتيش التي ماتت الآن في أوروبا بفضل استنارة العقول تحولت إلى شيء آخر أو مؤسسة أخرى، فهي الآن موجودة في الفاتيكان وتدعى باسم: المجمع المقدس، للحفاظ على عقيدة الإيمان المسيحي، صحيح أنها لم تعد تحرق المفكرين وكتبهم، كما كانت تفعل سابقا ولكنها تراقب أي خروج عن العقيدة أو أي انتهاك لها، وتعاقبه عن طريق فصل الأستاذ من عمله أو منعه من تدريس مادة اللاهوت المسيحي، كما حدث للمفكر اللاهوتي الشهير: هانز كونغ الذي قمعه البابا الحالي عندما كان رئيسا للمجمع المقدس في الفاتيكان. ثم يقولون لك بعد كل ذلك إن العنف والتعصب شيئان خاصان بالإسلام فقط! وكنا قد دعونا أكثر من مرة إلى تأسيس علم جديد بعنوان: علم الأصوليات المقارنة، وذلك بغية إضاءة المشكلة على أفضل وجه. فبالمقارنة تتضح أوجه الشبه والاختلاف في آن واحد.

يرى الباحث الكبير أن محاربة الزندقة كانت سارية المفعول حتى قبل ظهور محاكم التفتيش كمؤسسة رسمية في بدايات القرن الثالث عشر. فقد كان هناك دائما أناس يخرجون عن هذا المبدأ أو ذاك من العقيدة المسيحية. وكانت الكنيسة تعاقبهم بشكل أو بآخر. ويمكن القول إن المجمع الكنسي الذي اجتمع في مدينة لاتران عام (1139) كان أول من بلور التشريعات البابوية ضد الزندقة والزنادقة.

وقد طبقت هذه التشريعات على إحدى الفئات المسيحية أثناء الحروب الصليبية لأول مرة، وهي فئة «الألبيجيين» التي اعتبرت بمثابة الخارجة على الإجماع المسيحي، وبالتالي فهي مهرطقة أو زنديقة. وكان الإمبراطور المسيحي هو أول من فكر باستخدام الحرق كعقاب للزنادقة عام 1224، وهي عقوبة فظيعة ومرعبة لأنهم كانوا يشعلون النار في الحطب ثم يلقون بالإنسان الزنديق فيها وهو يزعق ويصيح.

ثم صدق البابا غريغوار التاسع على هذا القرار عام 1231 وأصبحت محرقة الزنادقة أمرا شرعيا معترفا به، بل وخلعت عليها القداسة الإلهية، لأن البابا كان يتحلى بمكانة المعصومية في نظر جمهور المسيحيين آنذاك، بل ولا يزال يتحلى بها حتى الآن. وبالتالي فكل ما يأمر به أو يفعله مقدس ولا راد له.

وقد كان الهدف من إقامة محاكم التفتيش هو الدفاع عن الإيمان المسيحي في مذهبه الكاثوليكي البابوي الروماني. وقد أسسوها في البداية لمحاربة بعض الفئات المسيحية المارقة في فرنسا، ثم وسعوها لكي تشمل طوائف أخرى عديدة لا تلتزم كليا أو حرفيا بالشعائر المسيحية الكاثوليكية. وأخيرا وسعوها لكي تشمل بقايا الوثنية التي لم تمت بعد في أوروبا، وكذلك لكي تشمل كل أعمال التجديف والكفر: أي شتم المقدسات المسيحية أو النيل منها أو الاستهزاء بها.

هذا هو هدف محاكم التفتيش في البداية، ولكن كيف كانت تشتغل هذه المحاكم يا ترى؟ وما منهجيتها في المحاكمة؟ عن هذا السؤال يجيبنا المؤلف قائلا: كانت تشتغل على النحو التالي: بمجرد أن يشتبهوا في شخص ما، كانوا يقبضون عليه ويخضعونه للتحقيق. فإذا اعترف بذنبه تركوه. وإذا لم يعترف عذبوه حتى يعترف. وإذا أصر على موقفه ألقوه طعمة للنيران. وأحيانا كانوا يصدقونه ويعتبرونه بريئا من التهمة الموجهة إليه فيخلون سبيله.

وكانت محاكم التفتيش مشكلة عادة من رجلي دين أو راهبين اثنين، ولكن كان يساعدهما أو يحيط بهما أشخاص عديدون لا ينتمون إلى سلك الكهنوت ككاتب العدل أو كاتب المحكمة، وكالسجان أو حارس السجن.

والشخص الذي كان يرفض المثول أمام المحكمة كانوا يكفرونه فورا ويخرجونه من الأمة المسيحية، وبالتالي يباح دمه ويصبح قتله أمرا مشروعا. بمعنى أن من يقتله لا يعاقبه ولا يسائله أحد. وكانوا يطلبون من المشتبه بهم أن يكشفوا للمحكمة عن كل ما يعرفونه عن أسرار الزندقة والزنادقة الآخرين ممن يعرفونهم، وكان كاتب العدل يسجل ما يقولونه كمحضر رسمي. وبالتالي فمحاكم التفتيش سبقت أجهزة المخابرات الحديثة إلى الوسائل الرهيبة للاستجواب.

وكان القضاة يلجأون أحيانا إلى الوشاة أو الجيران أو حتى شهود الزور لكي يحصلوا على معلومات تدين الشخص المشتبه به والذي يريدون معاقبته بأي شكل لأنه لا يؤدي الشعائر الدينية كما ينبغي، أو لأنه لا يؤمن بالعقائد المسيحية كلها بشكل مطلق ودون أي تساؤل.

وكان يصل الأمر بهم إلى حد محاكمة الشخص حتى بعد موته! فإذا ما ثبت لهم أنه مذنب أو خارج على العقيدة المسيحية فإنهم كانوا ينبشون قبره ويستخرجون جثته ويحرقونها معاقبة له.

وكانت العقوبة من نوعين: خفيفة وثقيلة. فإذا كان الذنب خفيفا اكتفوا بتقريع المذنب في الكنيسة على رؤوس الأشهاد. وأحيانا كانوا يطالبونه بدفع مبلغ من المال للفقراء للتكفير عن ذنبه. أما إذا كان الشخص الملاحق زنديقا حقيقيا بحسب رأيهم فإنهم كانوا يسجنونه مدى الحياة، وفي الحالات القصوى كانوا يلقونه في المحرقة طعمة للنيران.

ويرى المؤلف أن التعذيب بلغ ذروته في القرن الثالث عشر. ففي ذلك الوقت ازدهرت محاكم التفتيش وانتشرت في شتى أنحاء المسيحية الأوروبية من إيطاليا، إلى فرنسا، إلى ألمانيا، إلى إسبانيا والبرتغال، إلخ...

ففي فرنسا مثلا أدت هذه المحاكم السيئة الذكر إلى حرق مناطق بكاملها جنوب البلاد، بالقرب من مدينة تولوز. وهي مناطق كانت مسكونة من قبل طائفة مسيحية خارجة على القانون وتدعى: طائفة الكاتاريين. فيبدو أنهم كانوا يخلطون العقائد المسيحية بعقائد أخرى لا علاقة لها بالمسيحية. ولهذا السبب كفروهم، وأعلنوا عليهم حربا صليبية لاستئصالهم في الوقت نفسه الذي وجهوا فيه الحملات الصليبية إلى الشرق لاستئصال المسلمين.

وبالتالي فالحروب الصليبية ابتدأت أولا في الداخل قبل أن تنتقل إلى الخارج. وهذا شيء يجهله الكثيرون. فقد كانوا يعتبرون زنادقة الداخل بمثابة طابور خامس يشكل خطرا على المسيحية أكثر من الإسلام. ولذلك حصلت مجازر كثيرة في تلك المنطقة الفرنسية. ولم يستطيعوا التغلب على «الزنادقة» إلا بعد مقاومة عنيفة وجهد جهيد. ولا تزال آثار هذه المجازر حاضرة في الذاكرة الفرنسية الجماعية حتى الآن.

وهي تشكل صفحة سوداء في تاريخ فرنسا. وهم يخجلون بها أو منها، ولذلك فإن الساسة الفرنسيين يقولون لك عندما تنشب مشكلة داخلية عويصة: لا نريد تحويلها إلي حرب أديان! والمقصود بذلك أنهم لا يريدون العودة إلى الانقسامات الطائفية والحروب الأهلية التي مزقتهم طويلا في الماضي. وبالتالي فأكثر شيء يرعبهم هو تلك الحروب المذهبية التي جرت في القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر وحتى السابع عشر.

إنهم يريدون أن ينسوا تلك الذكرى الأليمة لمحاكم التفتيش والحروب المذهبية التي تشكل صفحة سوداء في تاريخهم - كما قلنا - وبالتالي فمحاكم التفتيش لم تنته من الذاكرة الجماعية، وإنما لا تزال آثارها عالقة في النفوس حتى الآن. ثم يردف المؤلف قائلا: بين عامي (1250 ـ 1257)، أي طيلة سبع سنوات قاد محاكم التفتيش في جنوب فرنسا زعيم كاثوليكي أصولي متعصب جدا يدعى «روبير لوبوغر». وقد فتش كل المدن والأرياف هناك بحثا عن الزنادقة أو المزعومين كذلك.

وحرق بالنار واحدا وعشرين شخصا، وسجن مدى الحياة (239)، ورمى في النار الكاهن الزنديق لطائفة «الكاتاريين» المارقة. وحكم على قرية بكاملها بالمحرقة، لأنه اتهمها بإخفاء أحد الزنادقة الكبار من رجال الدين الكاتاريين.

ثم يردف المؤلف قائلا: أما أبشع محاكم التفتيش في العالم فكانت في إسبانيا التي كانت مشهورة بتعصبها الديني الكاثوليكي. وقد ابتدأت هناك عام 1480 قبل انتهاء الحروب التي أدت إلى طرد العرب والمسلمين من إسبانيا. وكان على رأسهم الملكة إيزابيل الكاثوليكية جدا، وكذلك زوجها فيردنان.

وقد استهدفت محاكم التفتيش أولا «المسيحيين الجدد» لمعرفة فيما إذا كانوا قد اعتنقوا المسيحية عن جد، أو لأسباب تكتيكية ومنفعية خالصة. وهؤلاء الناس كانوا سابقا إما مسلمين وإما يهودا، اعتنقوا مذهب الأغلبية خوفا من الاضطهاد والملاحقات. وكان ذلك بعد أن انتصرت الجيوش المسيحية على العرب وإنهاء حكم ملوك الطوائف في الأندلس.

وليس من قبيل الصدفة أن يكون مركز محاكم التفتيش في إشبيلية، إحدى عواصم التنوير الأندلسي في سالف الأزمان.. ومن أشهر قادة محاكم التفتيش ليس فقط في إسبانيا وإنما في العالم كله شخص يدعى: توماس توركمادا. ومجرد ذكر اسمه يثير القشعريرة والرعب في النفوس حتى هذه اللحظة. فقد كان أكبر أصولي متزمت في الغرب المسيحي كله. وكانت جرأته على القتل والذبح تفوق الوصف.

وكان مقربا جدا من الملكة إيزابيل التي لا تقل تعصبا عنه. ولذلك عينوه رئيسا لمحاكم التفتيش الإسبانية بين عامي (1481 ـ 1498): أي طيلة سبعة عشر عاما! وفي ظل عهده «الميمون»، أطلقت محكمة التفتيش في طليطلة الأحكام التالية: حرق عشرة آلاف ومائتين وعشرين شخصا بالنار. ذبح ستة آلاف وثمانية وأربعين زنديقا آخرين. تعذيب خمسة وستين ألفا ومائتين وواحد وسبعين شخصاً حتى الموت في السجون. شنق اثني عشر ألفا وثلاثمائة وأربعين شخصا متهما بالزندقة أو الخروج عن الخط المستقيم للدين المسيحي. الحكم على تسعة عشر ألفا وسبعمائة وستين شخصا بالأشغال الشاقة والسجن المؤبد. باختصار فإن هذه الأحكام المرعبة شملت ما لا يقل عن مائة ألف وأربعة عشر شخصا، ويزيد. وكل ذلك حصل في منطقة طليطلة وحدها. فما بالك بما حصل في مختلف مناطق إسبانيا الأخرى؟!

وللعلم فإن كل هؤلاء الزنادقة كانوا يجردونهم من أملاكهم وأموالهم وأرزاقهم. ولكن «توركمادا» رفض أن يأخذها لنفسه، أو يغتني على حسابها. وإنما ظل رجلا فقيرا كأي راهب صغير بعد أن أعطاها للكنيسة أو للجمعيات الخيرية المسيحية. فهو لم يكن وصوليا انتهازيا منفعيا وإنما كان أصوليا متزمتا حقيقيا.