«رقصة شرقية».. رواية لا تنتهي بالصفحة الأخيرة

الروائي يترك لشخصياته حرية ترك بصماتها على انطباعاتنا

«رقصة شرقية» المؤلف: خالد البري
TT

لا يمكن للأحداث الكونية الكبرى أن تؤثر فينا إلا بقدر التصاقها بنا بتفاصيل صغيرة جدا، متناهية الدقة. ربما تكون هذه الجملة مدخلا لفهم الفكرة التي بنيت عليها «رقصة شرقية» الرواية الجديدة للكاتب المصري خالد البري.

فأي حدث مهما كبر لا بد أن يكون تأثيره فينا بمقدار استعدادنا لهذا التأثير، وهذا ما انعكس بالفعل على أحداث وشخصيات الرواية، حتى عندما وجد أبطالها أنفسهم متهمين بالتآمر على ارتكاب عمليات إرهابية لم يكن ذلك سوى استعداد داخلي لكل منهم كي ينتهي إلى تلك النهاية. يدعو البري في روايته هذه القارئ للكشف عن الجوهر، كمن يقوم بتقشير ثمرة الأرضي شوكي (الخرشوف). طبقة بعد أخرى غير آبه بالوخزات الخفيفة للأشواك كي نصل معه إلى الحقيقة. في البداية يدعونا إلى تتبع ذلك الخيط غير المرئي في علاقة الأب والابن، التي وإن تباعدت بالزمان والمكان، لكنها تحكمنا وتتحكم بنا دون أن ندرك بالضرورة أن حياتنا تشكلت بقدر متانة هذا الخيط أو هشاشته. فإن كانت شخصية هذا الأب محورا أساسيا في تبلور وعينا للدنيا، ولديها تلك القدرة على فرض جبروتها المحسوس، سلبت منا عنصر التكون المستقل بعيدا عن هذه الشخصية، ووقعنا أسرى في شركها، كما في حالة ياسر، أحد أبطال الرواية. فياسر عاش صراعه مع صورة أب مهاب، سلبته القدرة على التشكل خارج فلكها.

وحتى الغياب يتحكم في هذه العلاقة كما في قصة كل من إبراهيم وحسين. إبراهيم الذي غادر والده إلى العراق لتنقطع أخباره سوى من بعض الحكايات التي نسجها خيال الناس عنه، لينشأ إبراهيم مترعرعا على قصة وأكذوبة عاشت في خياله ليصبح هو نفسه بطلا متخيلا في قصص اخترعها لنفسه. وبعد عودته من العراق لا يستطيع إبراهيم العيش مع الأب الحقيقة، ويستكين إلى الأب الحكاية. وحسين، الذي عاش يتيما، يحمل على جسده علامات حادث أودى بحياة أمه، أما أبوه فإلى امرأة أخرى، يبحث لجسده المتكئ على عكاز عن أرض صلبة تعوضه الشعور المفتقد بالأمان، مبررا لنفسه بعض المواقف التي قد يرى من هم على الجهة المقابلة أنها مواقف «نذالة». أما الشخصية النسائية الأبرز في روايته، كاتيا، يلعب الأب البديل، زوج الأم، دورا في توجيه دفة حياتها مرسلا بها في نهاية المطاف إلى لقاء الأب الحقيقي.

كما في روايته الأولى «نيجاتيف»، يحاول البري فك طلاسم العلاقة الملتبسة مع الجنس الآخر. ففي هذا المحور جاءت المرأة كعنصر يسهم في تشكيل الأحداث وصياغتها وتغيير مجرياتها، كاتيا ذات الأصول المختلطة تأتي إلى لندن بهدف تعلم الرقص الشرقي. متعلقة بكليشيهات، كضرورة إتقان اللهجة المصرية كي تصبح راقصة ماهرة، ومراوغة في تحقيق هدفها مستغلة كل من يمكن له مساعدتها على الوصول. كاتيا أكثر الشخصيات دراية بما تريده من حياتها وإن كنا نحن كقراء قد لا نقتنع بصوابية ما تريد، لكن الكاتب يدخلنا ببراعة في نسيج أحلامها وطريقة تكونها حتى نقتنع في النهاية بأن ما أرادته كاتيا يجب أن يكون، بل نتآمر على تحقيقه. ولكن بحيلة لا يني الكاتب خالد البري عن ممارستها على قرائه في كتابه هذا، فنجد أن مصير كاتيا قد تغير أيضا وفقا لرغبتها لا لرغبة الكاتب أو رغبتنا.

ولا تشذ شخصية مارغريت عن القاعدة، مارغريت التي «انتزعت» إبراهيم من «مستنقع» غرق فيه آلاف الشباب من قبله في مصر، وتعطيه فرصة العيش في لندن كزوج يصغرها بعشرات السنين. مارغريت واحدة من شخصيات الكتاب التي تدعو إلى التأمل في نظرتها إلى الحياة التي تقارب فيها الحكمة على طريقتها الخاصة. وفي قدرتها على قلب الأحداث والمبادئ أيضا لصالحها كي تأمن لحياة متقلباتها أكثر مما استقر فيها.

تصل الرواية إلى ذروة الحدث فيها حينما يجد هؤلاء الشباب أنفسهم تحت أعين أجهزة المخابرات التي تراقب تحركاتهم وتترقب ردود أفعالهم. إنها زحمة من الأحداث لا يسعنا استيعابها دفعة واحدة لأن الكاتب يضعها بتسارع يتماشى مع ضرورة السرد الذي اختاره، لنصل معه إلى فك الخيوط قرابة النهاية، حيث تتسارع أنفاسنا على إيقاع وتيرة الأحداث والمفاجآت التي تحملها.

لا أحكام أخلاقية في رواية «رقصة شرقية»، فالكاتب يترك لشخصياته حرية ترك بصماتها على انطباعاتنا عنها. لا يحاول إدارة دفة تعاطفنا صوب أي منها، بل ظل منها على مسافة واحدة، فرغم استفزاز إبراهيم لنا في حكمه على الأشياء وانتهازيته فإننا نجد أنفسنا متواطئين معه في بعض المواقف. وكما في مشاهدتنا لفيلم رعب نتعاطف مع شخصياته، نود أن نصرخ فيه ليبتعد عن الخطر المحيط به. وحسين الذي يقامر بكل شيء حتى مصير أصدقائه، نجد له الأعذار، بل قد نقتنع بضرورة قيامه بفعلته تلك، أوليس حسين أبا لعائلة كبيرة، إضافة إلى زوجة تنتظر حوالة آخر الشهر كي تصلها، وهو في كل الأحوال مكافح يتغلب على إعاقته ليحقق ما حققه!

الحبكة الروائية جاءت متينة في الرواية، والروائي يفلح في مد عمر عنصر التشويق فيها على امتداد صفحات الرواية الستمائة. وحتى في صفحتها الأخيرة يترك الخيار أمام القارئ ليضع الخاتمة المناسبة بحسب فهمه للأحداث. فهي لا تنتهي بالضرورة في الصفحة الأخيرة في الرواية، وإذا فهمنا الأحداث من وجهة نظر كل شخصية على حدة، فسنضع نهايات مختلفة بحسب كل منهم.

من قرأ رواية البري الأولى «نيجاتيف» ويقرأ الآن عمله الجديد «رقصة شرقية» لا بد أن يلاحظ النضج الذي طرأ على تجربته الروائية. فالزمان والمكان باتا أكثر وضوحا. الشخصيات اكتست ملامح من لحم ودم يمكن لنا تخيلها ولمسها، بل وشم رائحتها حتى. والحبكة، التي حرص خالد على عامل التشويق فيها، تشدنا لمتابعة القراءة من الصفحات الأولى بجمل تحريضية تحثنا على المواصلة، بإعطائنا القليل عما ينتظرنا في الصفحات المقبلة، لنصل معه إلى نهاية الصفحات الستمائة، حيث تتكشف لنا حقيقة غير تلك التي توقعناها تماما.