الأزياء الغربية إن حكت

للعولمة حدود ترسمها الاعتبارات الدينية في كل أنحاء الأرض

TT

يعرف الأميركيون أن باريس لم تعد وحدها عاصمة الموضة، بعد أن اكتسحت بنطلونات الـ«جينز» العالم مع بلوزات الـ«تي شيرت» وأحذية الرياضة «نايكي» وغيرها من الماركات والتقليعات الأميركية. لذلك فإن الأبحاث هناك باتت تعنى عن كثب بمعرفة خريطة الموضة، وميول الشعوب، والعوامل المحلية التي تفرمل عولمة الملابس. الأميركيون يقيسون مدى سيطرتهم على العالم من خلال انتشار الملابس الغربية عموما، وملابسهم خصوصا، ربما كانوا محقين!

* كتبت مؤخرا، صحيفة «هافينغتون بوست» عما أسمته (بنطلونات هيلاري) أو «هيلاري تراوزرز»، وقالت إن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون «تقوم بأكبر دعاية للأزياء الأميركية، حتى يبدو أن شعوب العالم صاروا يعتقدون أن كل الأميركيات يلبسن البنطلونات». ونشرت الصحيفة صورا لكل السيدات اللاتي تسيدن البيت الأبيض من التينور (زوجة الرئيس روزفلت) حتى ميشيل (زوجة الرئيس أوباما). وكان واضحا أن هيلاري (منذ أن كان زوجها كلينتون رئيسا) فضلت البنطلونات، بل كانت أول سيدة تلبسها في مناسبات رسمية.

ثم نشرت الصحيفة صور هيلاري وهي وزيرة للخارجية، وطبعا أكثرت من البنطلونات، وقارنتها بصور وزيرة الخارجية التي سبقتها: كونداليزا رايس. وقالت الصحيفة إن رايس كانت تفضل الفساتين، عكس هيلاري. كما أن رايس كانت أكثر أناقة (ربما لأنها أطول قامة وأنحف جسما. وربما لأن البنطلونات لا تناسب المرأة الطويلة لأنها تجعلها أطول). وعلى كل حال، قالت الصحيفة «لا توجد امرأتان ساهمتا في الدعاية للملابس النسائية الغربية مثل هيلاري كلينتون وكوندوليزا رايس».

مؤخرا، نشرت دورية «بوبيولار كالشر» (الثقافة الشعبية) بحثا عنوانه «نسيج ثقافي: أزياء وهويات وعولمة». وهو عن أزياء الشعوب، وصلة ذلك بهوياتها ومعنى ذلك في عصر العولمة.

ولاحظ البحث أن المتخصصين في هذا الموضوع يستعملون كلمات ذات دلالات مختلفة للتعبير عن الشيء الواحد، مما يوضح أنه، رغم العولمة، تبقى الهوية الوطنية والثقافة المحلية عاملين مهمين.

في دول العالم الثالث يستعمل الناس كثيرا كلمة «كلوثنغ» (ملابس). لكن، في الدول الغربية يميلون نحو استعمال كلمة «فاشون» (موضة)، مما يدلل - بحسب البحث - على أن الغربيين تطوروا من مرحلة استعمال الملابس لتغطية أجسامهم إلى التفنن في أنواع الملابس. ويشبه هذا التفنن ما يحدث في مجالات أخرى، مثل الطعام، بحيث لم تعد الكلمة عند الغربيين هي «فود» (طعام) فقط لملء البطون، لكنها أيضا صارت «كويزين» أي (فن إعداد الطعام).

وحسب د. جون ترافيز، مؤلف كتاب «الحقيقة العارية: أصل الملابس» توجد كلمة تستعمل كثيرا في مجال الملابس، وهي «كوستيوم» (زي)، وتعني نفس الشيء في كل الثقافات تقريبا. وهو نوع معين من الملابس يرمز إلى مهنة بعينها: زي ممرضات، زي عسكريين، زي شرطة، زي كشافة، إلخ.

وتتفق كل الثقافات تقريبا، على مؤثرات تؤثر على الملابس: الدين (المتدينون أكثر حشمة) والجنس (النساء أكثر حشمة وموضة) والثروة (الأغنياء أكثر تفننا) والمناخ (ملابس الدول الباردة أكثر صوفا وكثافة).

لكن، أكثر العوامل تأثيرا هي الثروة والوضع الاجتماعي، الذي يرتبط بالمستوى الحضاري، وخاصة انتشار، بل سيطرة الحضارة الغربية في العالم، حتى من قبل العولمة.

وحسب كتاب «الحقيقة العارية: أصل الملابس»، فإن شعوب العالم الثالث تميل نحو الملابس البسيطة، إما لأنها لا تملك مالا لشراء ملابس فاخرة، أو لأن المناخ لا يستدعي ارتداء الكثير (مثل الذين يعيشون عراة أو شبه عراة في الأحراش). وبالنسبة لشعوب الغرب، فلم تعد الملابس ضرورة فقط، بل صارت فنا وموضات وتقليعات. وبصور عامة:

أولا: ازداد ارتداء النساء لملابس الرجال، مثل: بنطلون وقميص وحزام وربطة عنق، في ما لا يرتدي الرجال ملابس نسائية.

ثانيا: قصرت ملابس النساء، وزادت المساحات المكشوفة من أجسادهن.

وفي الكتاب صور نساء غربيات ذهبن إلى أحراش أفريقيا، وصورن بمايوهات إلى جانب أفريقيات شبه عاريات، وذلك بهدف إثارة نقاش عن زيادة تعرى الغربيات، وعن الفرق بين تعرى الأحراش وتعرى البلاجات. وقال الكتاب: «لو لم تكن مقاييس الجمال الغربية هي التي تسيطر على ثقافة الملابس في كل العالم، من يدرى، ربما كانت نظرتنا إلى جسد المرأة مختلفة. لكن، ها نحن الآن ننظر إلى الشقراء شبه العارية بأنها قمة الحضارة وإلى الأفريقية العارية على أنها في أسفل سلم التأخر».

وأشار بحث الأزياء والعولمة إلى التغير الكبير في الصين، خلال الثلاثين سنة الماضية، وقال: «اختفت أزياء ماو تسي تونغ، وظهرت آخر الموضات الغربية. ويشاهد الأجنبي الذي يزور شنغهاي صينيات وكأنهن غربيات، مع فرق واضح، تتجه المرأة الغربية نحو فساتين تكشف أجزاء أكثر من جسدها، وتبدو أرخص قيمة وأقل مستوى، بينما تتجه المرأة الصينية نحو الفساتين الغربية الراقية والأغلى ثمنا»، وأضاف البحث «يظل الصينيون متأثرين بالتقسيمات والطبقات الاجتماعية التي ورثوها عن أجدادهم، والتي كانت واضحة في الملابس، قبل أن يأتي ماو ويوحدها. وها هم يرون الموضات الغربية الراقية رمز الارستقراطية، بينما تخطى الغربيون مرحلة الارستقراطية».

في الوقت نفسه، وبسبب الفقر الذي لا يزال كثيرا في ريف الصين، ينتشر بنطلون «جينز» وقميص «تي شيرت». ولا بأس في ذلك، لأنهما يجعلان الريفي يحس وكأنه صار مثل الريفي الأميركي.

وفي قمة النظام السياسي والاجتماعي الصيني، صارت عولمة الملابس واضحة، حيث ذهب «زي ماو»، وحلت محله البذلة الغربية. لكن، في كوريا الشمالية المجاورة، يظل الزعيم كيم جونغ أيل يرتدي «زي ماو»، ويأمر شعبه بأن يفعل مثله، مع تغيير بسيط، وهو أنه طور الزر واستبدله بسحاب، وكأنه هو الآخر يقترب من الحضارة الغربية قليلا، قليلا.

وصار التغيير واضحا في فلسفة جمال المرأة. في الماضي، حسب تعاليم كونفشيوس، لم يكن الجمال هو جمال الوجه ولكن جمال الأخلاق. وكتب الرجل كثيرا عن «الجمال الداخلي»، ثم جاءت الشيوعية ورسخت هذا المفهوم.

لكن الآن، حسب تقرير في مجلة «تايم» عن انتشار ما سمته «الثقافة الرأسمالية» في الصين، أوضحت أرقام بأن استهلاك النساء للمساحيق والبودرات ودهانات الشعر وصبغ الأظافر ودهان الشفاة والعطور، تتضاعف خمس مرات، خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

وأشار التقرير إلى ظاهرة أخرى وسط الصينيات تبدو غريبة، وهي «هوايتننغ» أي تبييض البشرة لتكون مثل بشرة الشقراوات الغربيات.

وفي كتاب «فهم تاريخ الموضة»، كتبت فاليري كامننغ أن انتشار الاتصالات والمواصلات ساعد على عولمة الأزياء، خاصة بعد انتشار المجلات النسائية المتخصصة في الأزياء. وقالت كامننغ إن «المجلات كانت موجودة منذ القرن التاسع عشر، وكانت ترسم الأزياء رسما، ثم توسعت عندما ظهرت الكاميرا، والصحافة المصورة. أقدم، وربما أشهر مجلة أزياء أميركية هي «فوغ» التي بدأت في الصدور سنة 1892. وفي سنة 1953، ظهر أول عرض أزياء في التلفزيون. واليوم، رغم انتشار مواقع الأزياء على الإنترنت، تظل مجلات الموضة الأكثر أهمية، لأنها تقدم المقاييس والطرق الواجب اتباعها لخياطة أزياء حديثة. لكن انتشار الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الأميركية (ودور أميركيات مثل هيلاري كلينتون، كونداليزا رايس) زاد من أمركة الملابس والأزياء في العالم.

وفي تقرير في آخر عدد لمجلة «تايم» عن منافسات كأس العالم في جنوب أفريقيا، نشرت صور لأولاد وبنات في حي «سويتو» (حي السود، حيث بدأت حركة الزنوج الوطنية) وبعضهم يرتدي قمصانا «تي شيرت» عليها علامات جامعة هارفارد، وفريق «هارلم» (حي الزنوج في نيويورك)، وأحذية «نايكي».

فأحذية «نايكي» وهي ماركة أميركية، اكتسحت العالم. وفي منافسات كرة القدم، كانت «نايكي» من الشركات التي صرفت أموالا كثيرة على المنافسة، بهدف زيادة مبيعات أحذيتها. لكن، قال بحث دورية «بوبيولار كالشر» (ثقافة شعبية) أن عولمة الأزياء لها حدود:

أولا: دينية، إشارة إلى ميل الأديان نحو الملابس المحتشمة، وأيضا، بالنسبة للمسلمين والمسلمات الذين يجب عليهم عند الصلاة ارتداء ملابس محتشمة.

ثانيا: ثقافية، بعض الشعوب ترى أن الرجل ينجذب أكثر نحو المرأة المحتشمة لأن ذلك يدل على تربيتها في بيت أخلاقي، بينما ينظر إلى غير المحتشمة وكأنها خليعة أو عاهرة.

ولم يتحدث البحث بالتفصيل عن تحجب مسلمات، لكن ذلك يقع في ثلاثة إطارات:

أولا: ديني (بسبب رأي الدين).

ثانيا: ثقافي (بسبب نظرة المجتمع السلبية إلى الملابس غير المحتشمة).

ثالثا: رد فعل على ملابس الغربيات التي تكشف كثيرا، والتي نشرتها الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وقناة «إم تي في» الموسيقية.