القراءة.. والحب

مراجعات خاصة وعروض متنوعة والتجارب الأدبية تخلق مجموعا مدهشا

محمد الماغوط
TT

تستطيع القراءة أن تكون نافذة أو بابا يفتح على أفق من المسائل والهموم والقضايا التي تتزاحم على جدول أعمال الكاتب العربي، لكن القراءة هنا تحاول أن تكون مفتاحا للكتابة التي لا تعيرها الثقافة العربية الكثير من الاهتمام. إذ لا معنى لأي كتابة لا تستطيع أن تكون حقلا لقراءة ما. غير أننا يمكن أن نقول إن كتاب عزت القمحاوي قراءة القراءة، أو هو كتاب قارئ إلى القارئ. صحيح أنه يحتمي وراء الحب، من أجل أن يطل على هذه الكوكبة من الكتاب والكتب، غير أنه كتاب في الحب أيضا. أو هو كتاب يحتمي بالحب ليتحدث عن القراءة، ويستنجد بالقراءة ليتحدث عن الحب.

كيف يتمكن الكاتب، من خلق هذه التوليفة المثمرة بين الحب والقراءة؟ هل يحتاج إلى التجربة، أم يكتفي بالخيال وحده؟

يرسل القمحاوي كتابه هذا على شكل مراجعات، وخاصة العروض المتنوعة للكتب والكتاب والتجارب الأدبية، كي يستميلنا إلى هذا المجموع المدهش، بحيث نحلم برفقته كقراء وكتاب بالتجربة الإنسانية الدافئة التي أنجزها الكتاب الآخرون.

كتابة عزت القمحاوي غامضة وناقصة، إنه نوع من الكتابة المشفرة، تقتضي أن يحاول القارئ استكمال المحجوب فيها، وهنا يكمن «وجه الشبه الأعمق بينها وبين الحب: المشاركة».

لكن ما هو الحب؟ ثمة وصفان له يعبران عن ثقافتين، فالثقافة العربية رأت أن «معانيه دقت عن الوصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة» هكذا قال ابن جزم في «طوق الحمامة»، ولكن هل تدرك حقيقته بالمعاناة حقا؟ فيما يقول ابن عربي: «إن كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه». أما الثقافة الغربية فقد وجدت أن الحب هو الشعور بالرغبة في شيء لم نكتسبه بعد. لكن الناس يعشقون – يقول الكاتب – من دون الالتفات إلى تعريفات الحب، ومع ذلك فهو يعود إلى ابن عربي «فالحب ابن للغرابة وليس للاعتياد».

بالمقابل لا توجد قراءة محايدة، قراءة بلا صفات، بل يمكن القول إذا ما اتكأنا قليلا على القمحاوي، إننا نناصر القراءة كي نصنع منها شركا، نصطاد به أولئك الذين لم يقرأوا هذا الكتاب، أو ذاك. القراءة كتابة أخرى، أو هي امتحان للكتابة.

يهيمن بورخيس من جهة، وقارئه الكبير مانغويل من جهة ثانية على الرسائل تقريبا، لأن قراءة بورخيس «تمرين جيد على الكتابة، والتماعاته محرضة على الإبداع» وعلى الرغم من أن الكاتب لا يقدم لنا الحيثيات المقنعة بهذا الكلام، فإن كل من قرأ بورخيس يعرف جيدا مغزاه، دون أن يتمكن من اكتشاف الغامض فيه.

ومثله آخرون من الكتاب الكبار. سرفانتس، وتشيخوف، وماركيز، وكالفينو، وساراماغو، وجويس. فسرفانتس لم يمنح الأجيال اللاحقة من الروائيين الطريق إلى الرواية فقط، بل وضع الخلطة النفسية للمبدع، خلطة التواضع المراوغ.

أما «يوليسس» لجويس فقد أحدثت تأثيرها من خلال الكتابات النقدية عنها، ويعترف كثير من الكتاب في الغرب بأنهم لم يقرأوا هذا الكتاب الصعب، وأن الكتابات النقدية عنه أتاحت لهم أن يتعرفوا على تقنياته المبتكرة. بل إن كاتبا روائيا عربيا مثل جمال الغيطاني قال ذات يوم عن جيله: «كلنا تأثرنا بعوليس دون أن نقرأها».

وبعكس جويس، فليس هناك من لم يقرأ تشيخوف، بين الكتاب على الأقل، فهو الأول، وبوابة الدخول الضرورية للكاتب. وإذا ما قبلنا الوصايا التي تركها لنا إيتالو كالفينو عن الأدب، فإن الخفة، والسرعة، والدقة، والوضوح، والتعددية، هي من الأركان التي شيد تشيخوف عليها أدبه، قبل كالفينو بكثير.

ومن المؤكد أن همنغواي كان صادقا عندما كان يشجع نفسه كلما توقف عن الكتابة، لا تقلق «لقد كنت تكتب دوما من قبل وستكتب الآن، كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة». لكن كيف يتأكد المرء أو الكاتب أن الجملة التي كتبها حقيقية، إذا كان كل كاتب يؤمن باكتمال ما يكتبه؟ خاصة أن إحدى كبرى مشكلات الإبداع العربي، تنظير الكاتب لفنه، حيث يستعير أفكار الآخرين عن الفن، ويذهب بعيدا في تصور ما ينطوي عليه عمله من جماليات وأفكار ومستويات للمعنى، لا يمكن أن يعثر عليها المتلقي في النص.

من الذي سوف يحكم على الكتابة؟ يقول عزت «بعض الكتاب يحرصون على لغتهم حرص البخيل، فيغلفونها، والنوع الآخر يرسل كلماته عارية يكاد الدم ينسال منها». ثمة عقد آخر يمكن أن ننفذ منه إلى ذلك، وهو العقد الذي أبرمه ماركيز مع قرائه: الإمتاع والمؤانسة. وقد نبه ماركيز قراءه دائما، إلى أن ما يقرأونه ليس ما حدث بالضبط، بل ما يريد هو أن يحكيه، وبالطريقة التي يريدها. فيما ادعى بعض حساده، أن الواقعية السحرية التي أبدعها، هو وعدد من كتاب أميركا اللاتينية، ملقاة على الطريق مثل «معاني الجاحظ». وفي المقابل فلم تكن الواقعية السحرية صرعة أدبية، وإنما كانت وسيلة لمقاومة الاستبداد الذي أراد أن يحبس أوطانهم في ماسورة البندقية، فكان طبيعيا أن تنبت للرجال أجنحة تساعدهم على الطيران فوق الأسوار المتطاولة.

أسئلة من هذا النوع تجعلنا نعثر على جواب عن سؤال آخر: إلى أي حد كان الياباني الذي أحببناه في الرواية اليابانية المترجمة إلى العربية يابانيا؟ ربما كان متوفرا في ذلك التفنن في الإخفاء والهروب، كما فعل ميشيما في «اعترافات قناع»، وكاواباتا في «الجميلات النائمات»، وتانيزاكي في «اعترافات خارجة عن الحياء». إنها قواعد الأقنعة التي يجيد الروائيون اليابانيون ارتداءها.

فإذا كان رأي «فرناندو بيسوا» البرتغالي، أن من أكثر الاحتياجات الإنسانية دناءة، الحاجة إلى البوح وإلى الاعتراف، قد يصبح من الضروري أن نبحث عن العربي في الرواية العربية. لا فيما يريده الآخرون منها، خاصة المعيار الغربي، بل ما نريده نحن. وهو الأمر الذي جعل محمد البساطي يسخر من بعض الكتابات العربية التي تكتب وفق المواصفات الغربية، والرغبات المعلنة أو المضمرة.

كيف لنا بعد هذا كله أن نقبل ما يقوله عزت القمحاوي من «أن الكتب العظيمة لا تفعل سوى أن تعيد ما قالته الكتب العظيمة السابقة»؟ هل يعني هذا أن جدنا الكاتب الأول، أو جد البشرية الكاتب، قد اكتشف القول كله، ولم يترك لنا إلا ما نلوكه من بعده؟، وكيف يمكن أن تكتب البشرية كتبا عظيمة لا تفعل شيئا سوى تكرار القول؟ أم أن سر الكتابة في مكان آخر؟

عزت القمحاوي: «كتاب الغواية».

الناشر: «دار العين للنشر» – القاهرة – 2010.