كتابي عن الماغوط إعادة اعتبار للنهج العلمي وليس للحزب القومي

جان دايه ردا على ممدوح عزام:

غلاف الكتاب
TT

كنت وما زلت مؤمنا بضرورة الإضاءة على بدايات المفكرين والأدباء والشعراء، لسببين، أحدهما سلبي، لكونها مطمورة في العتمة بالصدفة أحيانا وبميعاد في معظم الأحيان، والآخر إيجابي لأنها بمثابة الأساس في عماراتهم الفكرية والأدبية، لذلك نشرت 17 مقالة موثقة في مجلة «الصياد» عن مجموعة من المبدعين أمثال عمر أبو ريشة، وسعيد عقل، وأمين نخلة، وأنسي الحج، وبدوي الجبل، فأصدرت كتابين عن صحافة عبد الرحمن الكواكبي «الشهباء» و«اعتدال» ضمنتهما مقالاته المجهولة السابقة لكتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» والممهدة لهما، وأصدرت كتابا آخر تحت اسم «خليل حاوي والشعر الطليق» نشرت فيه عشرات القصائد العامية، ودراسة له عن الشعر العامي، سبقت شعره الفصيح، وكتابين عن الدكتور هشام شرابي ضمنتهما بواكيره الفكرية، وكتابا عن سعيد تقي الدين أعدت فيه نشر مقالاته وقصصه القصيرة يوم كان طالبا في الجامعة الأميركية البيروتية. وعلى ضوء الهدف والمنهج نفسيهما، أصدرت كتاب «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي»، وضمنته بعض بواكيره من القصائد والمقالات ورواية «غرام في سن الفيل». وتبين من بعض المقالات والقصائد وحتى الرواية أن الماغوط انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1950، وبقي فيه حتى عام 1962. لذلك خصصت جزءا من دراستي لإضاءة مدى تأثر الماغوط بأنطون سعادة عبر كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري» الذي رسم فيه خارطة طريق التجديد الأدبي، أسوة بما جرى، بنسب متفاوتة، مع العديد من الأدباء والشعراء والمفكرين الذين كانت لهم تجربة حزبية مماثلة أمثال: يوسف الخال، ونذير العظمة، وصلاح لبكي، وأدونيس، وفؤاد سليمان.

ولكن الروائي المعروف ممدوح عزام، عبر نقده للكتاب، أو بالأحرى للكاتب والمكتوب عنه، في هذه الجريدة بتاريخ 20 يونيو (حزيران) 2010، واكتفى في القسم الأول من نقده، بالإشارة إلى الغرض المزدوج من تأليف الكتاب، أي نشر بدايات الماغوط وتأثره بسعادة. وباستثناء اعترافه اليتيم بنجاحي في البرهان على أن معلومة الماغوط حول انتمائه للحزب القومي بعد الدفء الذي وفرته له «صوبيا» فرع الحزب في بلدته «السلمية» وبقائه فيه عدة أسابيع وعدم قراءته لصفحتين من أدبيات مؤسسه، كانت مجرد نكتة ساخرة.. فإن الناقد لم ير في الكتاب المؤلف من أربعمائة صفحة سوى دراسة لي تستهدف أمرا سياسيا حزبيا، وبواكير ماغوطية غير واعدة. فقد اعتبر أن بيت قصيد الكتاب هو «محاولة لرد الاعتبار إلى الحزب». وهذا يعني أن الحزب القومي المؤسس عام 1932، وله حضور شعبي وسياسي (نائبان في بيروت، وثلاثة نواب ووزير في دمشق) في بلاد الشام كان يحتضر قبل صدور الكتاب، ونتيجة نكتة الماغوط، وقبل أن يلفظ أنفاسه حاولت إنقاذه بكتابي! وإذا كان الأمر كذلك، فإنني سأضيف فصلا كبيرا عن المحاولة الإنقاذية التي قمت بها عن غير قصد، في الطبعة الثانية!

وردا على دفاعي عن «النهج الساخر الذي يبرع فيه الشاعر الماغوط في نقده لخصوم الحزب القومي» يأخذ علي الناقد عدم إبدائي «مثل هذا الدفاع بشأن طرفته عن صوبيا الحزب القومي»، خاصة أن الكتاب في رأيه «مخصص للرد على هذه الطرفة بالذات». والظاهر أن الناقد لم يقرأ كل الكتاب، خاصة الفصل السادس الموزع على ثلاثة مقالات، حيث أكدت فيه أمرين: إن «نهفة الصوبيا» من حيث كونها صورة كاريكاتورية، تنتمي إلى الأدب الساخر الأصيل. ولكن المعلومة المخترعة التي تتمحور عليها، خفضت من قيمتها كقطعة ساخرة، وخاصة حين كررها صاحبها عبر إحدى الفضائيات، وفي أحد كتبه، ومن خلال بعض المقابلات الصحفية، لدرجة أن ملايين المشاهدين والقراء ومنهم الناقد عزام، صدقوها. وبالمناسبة، فما اعتبرته سخرية في بدايات الماغوط اعتبره الناقد هجاء. ولم يقتصر رأيه السلبي في الماغوط على سخريته، بل شمل بعطفه كل بداياته، من القصيدة النثرية إلى المقالة والرواية، ناهيك عن انتمائه إلى حزب سياسي. فيقول عن الرواية إنها: «نص ركيك من الناحية الفنية.. وتخلو من الحس الإنساني الرفيع». ويضيف في مكان آخر إن أكثر ما يدهش المرء اليوم هو انخراط المبدع في العمل الحزبي»، ناسيا أن «نشاط الأحزاب قائم على التكتيك المتغير وفق المصالح، بينما يعمل الشاعر في النطاق الاستراتيجي». وختم مستنتجا أن الماغوط «قد يكون أدرك هذا المنحى في سنواته الأخيرة، فراح يحاول التنصل من الماضي، ولكن الماضي لا يريد أن يتنصل منه. وهذا الكتاب دليل مطبوع على ذلك».

ثم، من قال للناقد إن الماغوط حاول بمنهجية صارمة التنصل من ماضيه الحزبي؟ أولم يقل في سياق مقابلة نشرت في ملحق النهار في 3 مارس (آذار) 2001، أي بعد اختراعه لمعلومة الصوبيا، ما حرفيته: «عندي حنين إلى فكرة القومية السورية، هي أصفى فكرة على الإطلاق. ومن أجل ذلك قتلوا أنطون سعادة». إن من عدة الشغل في النقد الموضوعي العادل أن يأخذ الناقد بعين الاعتبار أن سخرية الماغوط، إضافة إلى مقالاته وقصائده ورواياته، التي احتضنتها صفحات كتابي، يعود تاريخها إلى السنوات الفاصلة بين عامي 1950 و1962، أي قبل احترافه ونضجه. وإذا فعل ذلك، يراها مثلي واعدة لأنها تنطوي على الكثير من اللمعات الإبداعية.

يبقى أن الماضي الذي لا يريد أن يتنصل من الماغوط فهو «ماضي الأيام الآتية»، على حد تعبير أنسي الحاج.