جنات مفروشة بالكلمات

قرى الكتب تغزو العالم انطلاقا من بريطانيا

الكاتب في قرية «هاي اون واي»
TT

بعض الأساطير يصنعها أصحابها، كأن مهمتهم في الحياة، ليست غير هذا. ريشارد بوث أحد هؤلاء. فالشاب البريطاني القادم من المدينة الصغيرة، هاي أون واي، في إقليم ويلز عرف ذلك منذ أن بدأ بدراسة الاقتصاد (فرع تجارة الكتب) في جامعة أوكسفورد. بعد ثلاثة أو أربعة فصول دراسية، قرر الشاب الذي كان في بداية العشرين من عمره، آنذاك، قطع دراسته والذهاب لتعلم مهنته التي أحبها في شوارع نيويورك.

«الاقتصاد تصنعه الحياة»، تلك هي الجملة التي صرح بها في حينه، كأنه كان على يقين من أن المستقبل ينظر إليه، في عام 1961 عاد الابن الضال لمدينة هاي أون واي من نيويورك، وبصحبته شحنة غير عادية، حمولة تقترب من الفنتازيا: كونتينة مليئة بالكتب، 70000 كتاب من الكتب النادرة «أنتيكفاريات»، وعندما أفرغ بائع الكتب المجهول، آنذاك، بضاعته الثمينة تلك، ليؤسس على صرحها مكتبته المشهورة «أنتيكفاريات ريشارد بوث» التي على شكل فيلا في مدينته الصغيرة هاي أون واي لم يعرف (أو ربما عرف، لماذا لا؟) أنه سيضع الحجر الأساسي لما سيطلق عليه لاحقا «قرى الكتب» العالمية، كما أنه سيساهم في جعل تلك القرية الصغيرة التي وجدت في مشروعه نوعا من الانتحار، أو على الأقل، وجدت فيه شكلا من أشكال المزاح الإنجليزي، تعيش نهضة اقتصادية، حسدتها عليها، ليس القرى فقط، بل حتى المدن المجاورة لها. الشهرة التي حصلت عليها مكتبته شجعت أصحاب مكتبات أخرى قدموا من مدن بريطانية أخرى على افتتاح مكتبات جديدة هناك، فبالتدريج تحولت البنايات التقليدية في القرية الصغيرة إلى مكتبات، مثلا بناية السينما الوحيدة في القرية، أو الكنيسة الوحيدة في القرية، بل حتى بناية الشرطة القديمة، وبناية دار البلدية، قبل أن تتحول كل المحلات والبيوت القديمة في شارع القرية الرئيسي إلى مكتبات لبيع الكتب اصطفت إلى جانب بعضها، 38 مكتبة تخصصت كل واحدة منها في بيع صنف من أصناف الكتب. لكن تاجر الكتب (أو بائع الكتب، كما يطلق عليه عندنا) لم يشأ الاكتفاء بذلك الطموح، بل كان مثله مثل كتابه الذين يبيعون كتبه، هو الآخر طمح في الوصول للعالمية، ومثلما جلب السرياليون وقبلهم الدادائيون الشهرة لأنفسهم عن طريق فضائحهم التي تناقلتها الألسن ووكالات الأنباء، كان عليه، ولكي يحقق ما طمح إليه، أن يتسبب هو الآخر في فضيحة من العيار الثقيل. في الأول من أبريل (نيسان) 1977، وبعد التشاور مع سكان القرية دعا ريشارد بوث لمؤتمر صحفي أعلن فيه استقلال «مملكة هاي أون واي»، كما نصب نفسه ملكا عليها، وسط حفاوة مواطنيه طبعا. هناك صورة له مشهورة وهو يضع التاج على رأسه (رأيتها معلقة عند بوابة قصره عند زيارتي الأولى للمدينة عام 1992)، صحيح أن الإعلان «الفضيحة» ذلك لا يستند إلى فقرة في القانون الدولي، وهو غير ملزم قانونيا، إلا أن تناقل الصحف للخبر «الفضيحة»، وبكل ما حواه من طرافة جعل اسم القرية الصغيرة النائمة على النهر الويلزي وي يطير إلى كل العالم، اليوم تملك القرية الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 2000 نسمة، 38 مكتبة لبيع الكتب، ويزورها سنويا ملايين الزوار، ليس من محبي الكتب أو من تجارها وحسب، بل تحولت إلى مكة للسياح القادمين من كل أنحاء العالم، ليس هناك كتاب لا يمكن العثور عليه هناك، كتب بمختلف اللغات (أقلها الكتب العربية طبعا)، أغلب باعة الكتب هناك يشترون كونتينات شحن كاملة، كتب بسعر الجملة من مكتبات عامة أغلقت أبوابها، أو أخرى خاصة أعلنت عن إفلاسها، من غير المهم في أي مدينة أو قرية في العالم، من غير المهم اللغة التي كتبت بها، المهم، أنها كتب. بعض الكتب سعرها بسيط، بل رمزي، وبعضها يتعدى الآلاف، صديقي الكاتب الألماني المعروف فايت هاينيشين، مثلا الذي يعيش في مدينة تريستا الإيطالية، والذي جاء خصيصا لكي نلتقي هناك، اشترى مثلا الطبعة الأولى من رواية «الأمواج» لفرجينا وولف بثلاثين ألف يورو، لأن توقيع فرجينا وولف الأصلي بحبر قلمها الشخصي على الكتاب.

أغلب المدن أو القرى الصغيرة في العالم تموت، خاصة بعد هجرة أبنائها إلا هاي أون واي، فهي في ازدهار متواصل ومع مرور السنين، وهذا ما يجعلها تستضيف منذ عام 1988 أشهر مهرجان أدبي وفني في العالم. وفي ذلك العام أطلق البريطاني بيتر فلورينس مهرجان هاي أون واي للأدب والفنون والذي يدعى له كتاب وفنانون عالميون مشهورون، عشرة أيام هي مدة المهرجان، تستمر من نهاية شهر مايو (أيار)، إلى بداية شهر يونيو (حزيران) من كل عام، وعلى مدى أربعة عشر عاما، أي حتى عام 2002، كانت صحيفة «صنداي تايمز» هي الراعي الرئيسي للمهرجان، وبعد ذلك التاريخ أخذت مكانها صحيفة «غارديان» البريطانية.

الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أطلق على المهرجان اسم «ووتستوك العقل» مقارنة بمهرجان «ووتستوك للموسيقى» في عام 1969، الذي مثل ذروة حركة الهيبي الأميركية، والذي غنت وعزفت ورقصت فيه فرق موسيقى كثيرة، ومختلفة الأنواع في مزرعة بيتيل في ولاية نيويورك من ليلة 17 وحتى صباح 18 أغسطس(آب)، والطريف أنه بالتوازي مع ذلك المهرجان تنطلق في المدينة فعاليات مهرجان للأطفال «هاي فيفر» (حمى القش). ليس من الغريب أن تتحول هاي أون واي إلى نموذج لقرى كتب أخرى، ليس في أوروبا وحسب، بل في بلدان مختلفة من العالم، فهناك بيشيريل وكويسيري ومونتيليو وفونتينوي لاجوت ولاشاريته سور لور ومونتموريو في فرنسا، وبريدفووت في هولندا، ودامه وريدو في بلجيكا، وفيارلاند وتفيديستراند في النرويج، وكامبونغ بوكو في ماليزيا، وكامبوشي وميياواغا (الاثنتان على شكل قرية لكتب الأطفال المصورة) في اليابان، ولانغينبيرغ ومولبيك ومولينباخ وفونسدورف فالدشتات في ألمانيا، ونيفادا في الولايات المتحدة الأميركية، وبورغشتال في النمسا، وسانت بيير دي كلاغ في سويسرا، وسيدني في كندا، وساوثيرن هايلاندس بوكتريل في أستراليا، وسيسما في فنلندا، وفياندين في لوكسمبورغ، وفوتيكفيره في أستونيا، وفينغتون في بريطانيا. وبعض تلك المدن تملك عددا كبيرا من المكتبات، والبعض الآخر يحوي عددا قليلا، وليست للأمر علاقة بكبر المدينة أو عدد سكانها، وحسب الإحصائية التي أمامي فإن عدد مكتبات بيع الكتب في تلك المدن يتراوح بين مكتبة واحدة و28، لكن تظل، طبعا، مدينة هاي أون واي متصدرة القائمة في عدد مكتباتها بإجمالي نحو 38 مكتبة، ليس لأنها مدينة رائدة في هذا المجال وحسب، بل بسبب مساحة مكتباتها، التي أغلبها كان بنايات ضخمة سابقا (فيلا كبيرة، أو مسرحا أو كنيسة.. إلخ). وهذا ما تعلمه بعض أصحاب مكتبات بيع الكتب الجديدة، وأفضل مثال على ذلك هو مكتبة «لي بلويه». فالمكتبة الواقعة في القرية الجبلية الفرنسية الصغيرة بانون (القريبة من مدينة فوركالكير) التي هي أحدث المكتبات التي تأسست على خطى مكتبات هاي أون واي، التي زرناها قبل أسبوعين، تحوي لوحدها 45000 كتاب، فكبر البناية البارزة وفخامة طراز بنائها يذكران بفخامة مكتبات مدينة هاي أون واي، ومن يزر المكتبة يجد قصاصة من صحيفة «نوفيل أوبزيرفر»، معلقة على الباب، التي تشير، كيف أن المجلة المشهورة عالميا اختارت تلك المكتبة ضمن قائمة تضم أفضل عشر مكتبات لبيع الكتب في فرنسا، بجانب الكتب الأدبية والفلسفية، التي يعثر الزائر هناك على كل ما له علاقة بكتب وخرائط السفر. في أيام الفصول المعتدلة خاصة في أيام الصيف، موسم تفتح حقول الصندل البنفسجي في جنوب فرنسا (إقليم بروفونس بالذات) تتحول المكتبة إلى مكة السياح في تلك القرية الصغيرة التي تحتوي على 3 مقاهي ومطعمين أو ثلاثة فقط، أما في أيام الشتاء فيزورها سياح رياضة التزحلق على الجليد القادمين من فرنسا، ومن بقية مدن العالم للتزحلق على قمة جبل مونت دي لور. مدينة بانون في الحقيقة هي أحدث تلك المدن التي تبني صرحها على كتاب.

مدن وقرى صغيرة ومكتبات أكبر منها، جنات مفروشة بالكلمات، ستغريك مثلي بزيارتها، الواحدة تلو الأخرى، حدائق ما إن تمشي في ممراتها حتى تكف رغبتك في المغادرة..فتش عنها معي وستجدها موزعة على الكرة الأرضية، في كل القارات، بل ستجدها في بقاع ما خطرت على بالك في يوم، أينما وليت ستجدها أمامك إن شئت..شرقا أو غربا، جنوبا أو شمالا.. نعم، لا تستغرب أن تعثر عليها في كل مكان، باستثناء مكان واحد طبعا، ولا حاجة لي لتسميته لك، أعتقد أنك تعرف ما أعني: في البلدان الناطقة بالعربية طبعا.. فهل في الأمر مفاجأة؟