الملك سعود.. قائد في زمن مضطرب

وقف ضد حلف بغداد وسير ناقلات نفط إلى مصر تحمل العلم السعودي أثناء أزمة السويس

«الملك سعود، الشرق في زمن التحولات» تأليف: جاك بونوا ميشان ترجمة: نهلة بيضون الناشر: دار الساقي 2010
TT

صدر مؤخرا عن دار الساقي 2010 من تأليف المؤرخ الفرنسي جاك بونوا ميشان وترجمة نهلة بيضون كتاب «الملك سعود، الشرق في زمن التحولات».

والمعروف عن المؤلف، أنه اتجه منذ فترة طويلة إلى كتابة التاريخ العربي، ومنه تاريخ أسرة آل سعود. فأصدر كتبا عدة في هذا الاتجاه، منها «ميلاد مملكة» و«الملك فيصل». ومساحة كتابه الجديد مساحة واسعة تمتد من مصر إلى باكستان، مستعرضا بدايات عهد الملك سعود، ونهوض الجيش التركي، وتأميم المنشآت النفطية في إيران، وقيام دولة إسرائيل، والثورة المصرية، وأزمة الأردن في أغسطس (آب) 1957 التي أسفرت عن انقسام الشرق إلى معسكرين متخاصمين، وموضحا مواقف الملك تجاه حلف بغداد، وقضية البريمي، والقومية العربية، ومشروع أيزنهاور، وأزمة السويس وقطع العلاقات ووقف إمدادات البترول عن فرنسا وبريطانيا ونتائج ذلك على الاقتصاد السعودي، وصولا إلى جملة الأزمات والانقلابات المتقاطعة منذ أواخر الحرب العالمية الثانية حتى شهر أغسطس 1957، مما يملأ فراغا كبيرا في المكتبة العربية والتاريخ العربي المعاصر للشرق الأوسط.

عندما تسلم الملك سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، أو سعود الأول كما تشير الوثائق الرسمية، الحكم خلفا لأبيه الملك المؤسس في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953، لم يكن دوره كدور أبيه الراحل، فأحوال السعودية تبدلت بشكل متسارع وكأن قرونا وليس جيلا فحسب كان قد مضى على تسلم الملك المؤسس، ولم تعد الجزيرة العربية بحاجة إلى التوحيد فقد باتت وحدتها قائمة، كما لم تعد ثمة حاجة لاكتشاف النفط فهو يتدفق ليلا ونهارا. وكان على العاهل الجديد دفع المسيرة إلى الأمام، ولم تكن هذه المسيرة أقل اطرادا.

ساعة أسلم الأب المؤسس الروح كان المشرق فريسة اضطرابات سياسية خطيرة، وكان على الوريث أن يتحمل تبعاتها، خصوصا المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فالعالم العربي كان في خضم تحول عميق، وتبدلت أشكال الحكومات، وخرج العسكر من الثكنات ليقود المجتمع المدني، وتحركت الجماهير وراء أمل الاستقلال والتحرر الموعود. وكانت ضمانة المملكة شخصية الملك الراحل الذي اختار بعد وفاة ابنه البكر «تركي» أن يكون ابنه الثاني سعود خليفته. وفي 11 مايو (أيار) 1933 خلع عليه لقب ولي العهد، بعدما أثبت الأمير صفاته الحربية مع التزامه الشديد بواجباته الدينية. وكان أبوه قد أوكل إليه مهمته الرسمية الأولى عام 1914. ففي سن الثالثة عشرة سافر إلى قطر وقابل أميرها لتلقي استسلام عدد من القبائل المتمردة. وفي السابعة عشرة، تميز في معركة «تربة» التي أشرعت أبواب الحجاز أمام الجيوش السعودية، كما حارب في حائل واليمن، ومثّل والده في حفل تتويج الملك جورج السادس، وقابل الرئيس ترومان عام 1946. كان الأمير سعود يجمع في شخصه كل الصفات المطلوبة لممارسة السلطة الدينية والسياسية في آن واحد.

كان على الملك الجديد تأمين استمرارية السير على منهج أبيه الملك عبد العزيز الذي قال: نحن آل سعود لسنا ملوكا ولكننا أصحاب رسالة. ولهذا الغرض دعا بعد أسابيع على اعتلائه العرش إلى مؤتمر إسلامي انعقد في مكة المكرمة في 10 أغسطس 1954. وفي هذا اللقاء تأسس المؤتمر الإسلامي، وكان أول أعضاء هذا المجلس الملك سعود وعبد الناصر ومحمد علي الحاكم العام السابق لباكستان. وكذلك، سرعان ما أثبتت الحكومة السعودية الجديدة أن بمقدورها أن تتخذ مبادرات جريئة، فبعد شهرين من اعتلاء الملك سعود العرش، فوجئ العالم بأن شركة ملاحة جديدة (الشركة السعودية لناقلات النفط) تأسست في جدة على يد صانع سفن يوناني يدعى أوناسيس.

يعود المؤلف عدة سنوات إلى الوراء مذكرا بالمنحى الذي بدأت تأخذه الأمور في شمال الجزيرة العربية، في العراق وتركيا، مما أثار قلق الحكم في المملكة. ولإدراك ما يجري في أنقرة وبغداد وكراتشي أفرد المؤلف فصلا عن نهوض تركيا والتحولات الداخلية فيها، وفصلا آخر عن أطماع الاتحاد السوفياتي في المضائق التي تفتح الطريق حرا أمام السفن السوفياتية إلى البحر الأبيض المتوسط، وقيام دولة إسرائيل، والثورة المصرية والإطاحة بالملك فاروق ورحيله عن مصر 1952، وقضية تمويل السد العالي وصولا إلى تأميم قناة السويس عام 1956 والعدوان الثلاثي.

وشكلت مأساة السويس كما يسميها المؤلف مفترقا في سياسة الشرق الأوسط وإعادة تمحوره، ولأهمية هذه القضية وتحولاتها أفرد المؤلف القسم السابع من الكتاب لشرح الوضعية القانونية للقناة بالتفصيل، وردود الفعل الأولى في باريس ولندن، والمشاركة الإسرائيلية.

أصدر الملك سعود إثر العدوان مرسوما ملكيا في 7/11/1956، بقطع النفط عن فرنسا وإنجلترا، وأمر أيضا بالتعبئة العامة في المملكة، ونقل الطيارات الحربية المصرية إليها، وتقديم مساعدات مالية إلى الحكومة المصرية. وفتحت الموانئ السعودية لقطع الأسطول المصري الحربي والتجاري، وأنشأت وزارة الدفاع مكاتب للتطوع في جميع أنحاء المملكة. كذلك جعلت المملكة إمكانياتها البترولية تحت خدمة مصر، فقد شحنت 95 ألف طن من البترول إلى هذا البلد عن طريق ناقلات تحمل العلم السعودي لتعلن للعالم أن البترول السعودي هو سلاح للدفاع عن العرب. وقطعت المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا كونهما معتديتين على مصر بلا مبرر، كما أصدرت بيانا في 9 أبريل (نيسان) تحذر فيه من أنها سوف تضطر لضرب البواخر الإسرائيلية التي تمر في خليج العقبة.

ويفرد المؤلف فصلا لحلف بغداد يقول فيه: «في ربيع 1953 قام فوستر دالاس برحلة استطلاعية إلى الشرق الأدنى، وكان له في أنقرة سلسلة لقاءات أنتجت (مشروعا عظيما) يقوم على إنشاء درع شمال الشرق قادر على احتواء المد السوفياتي. وسوف يصبح هذا الحاجز الذي يقع بين حلف شمالي ومنظمة حلف جنوب شرقي آسيا همزة وصل بين الائتلافين. وقد صرح رئيس الجمهورية التركية بايار من البيت الأبيض أن إبقاء الخاصرة الشرقية للعالم الحر باحتياطاتها الهائلة من النفط بلا حماية قد يكون باعثا على القلق. لقد ولّى زمن الحياد ولا بد من الاختيار بين التعاون مع قوى الحرية أو طريق العبودية».

أسس هذا الخطاب لحلف بغداد. ففي أبريل 1954 جرى توقيع الحلف التركي - الباكستاني في كراتشي وترك الحلف مفتوحا للدول التي تسعى للأهداف نفسها. واستطاعت بريطانيا التي تعتبر نوري السعيد رئيس وزراء العراق أسدها الشرقي أن تستقطبه لتبني الدرع الشرقية وإعادة الحياة لمشروع الهلال الخصيب والمملكة الهاشمية. وفي عام 1955 جرى توقيع الحلف التركي - العراقي. وانضمت بريطانيا إلى الحلف وبات في وسع الأطراف أن تشكل «المجلس الدائم على المستوى الوزاري». وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1955 انضمت إيران إلى حلف بغداد. وقفت السعودية ضد حلف بغداد فهو حلف رأت فيه سطحية وهشاشة، وأنه ائتلاف سريع لمواجهة الظروف وعوامله الأساسية الخوف من الاتحاد السوفياتي، والانجذاب إلى المساعدة المالية الأميركية.

أصبح الملك سعود مع الوقت ملكا لأغنى دولة عربية، وصارت السعودية محورا أساسيا في سياسة الشرق الأوسط. ففي 30/1/1957 استجاب العاهل السعودي لدعوة الرئيس أيزنهاور الذي كان بانتظاره على مدرج المطار. وخلال الأيام التالية توالت حفلات الاستقبال. وتم الاتفاق في هذه الزيارة على أن الولايات المتحدة عليها أن تزود السعودية بالمدربين والأسلحة ومنحت الخزينة الأميركية المملكة قرضا بقيمة 250 مليون دولار، كما جدد الملك لمدة 5 سنوات إيجار قاعدة الظهران الجوية.

لقد قام الملك سعود بإنجازات يستعرضها المؤلف وتعجز عن إيرادها هذه المقالة، لكننا نختم بأن الملك سعود كان صمام الأمان لكثير من المشكلات في الشرق الأوسط، وساعد بحكمته على تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة الملتهبة، كما يبين الكتاب.