صحافي أميركي يروي تفاصيل 45 يوما قضاها أسيرا لطالبان

انبهر بخاطفيه وبأسلوب حياتهم ولا يعرف كيف تم الإفراج عنه

غلاف الكتاب
TT

في أفغانستان، في عتمة زنزانة ملأها الخوف وحاصرته فيها الشكوك، قضى الصحافي الأميركي جير فان ديك 45 يوما كانت ككابوس ممتد، ففي عام 2008 أصبح ديك ثاني صحافي أميركي تختطفه حركة طالبان.

وعلى الرغم من أن خاطفيه كانوا يحرصون دائما على معاملته على نحو طيب بشكل أثار إعجابه فإنه ظل يشعر بالقهر والمهانة، فقد كان حبيس زنزانة مظلمة لا يدخلها الهواء لمدة خمسة وأربعين يوما، يتوقع أن يطرق الموت بابه في كل لحظة سواء مقتولا برصاصة أو مذبوحا بسكين.

في كتابه «الأسير.. عندما كنت سجينا لدى طالبان» الصادر في يونيو (حزيران) 2010، في نحو 288 صفحة يروى جير فان ديك تفاصيل الشهر ونصف الشهر التي قضاها أسيرا لحركة طالبان. وما يميز تجربة فان ديك السردية هو أنه لم يحاول أن يبدو شجاعا أو يتظاهر بالبطولة أو بالروحانية فهو يصف مشاعره الحقيقية من خوف وحزن وربما خزي في بعض الأحيان، ويعترف في الوقت نفسه بانبهاره بخاطفيه وممارساتهم الإسلامية وأسلوب معيشتهم.

لم تكن تلك هي أفغانستان التي تمنى فان ديك أن يذهب إليها وهو شاب؛ ففي عام 1973 عندما كان فان ديك ما زال يدرس في باريس كان قد شاهد ملصقا حول أفغانستان وبعدها كان يتحدث مع أصدقائه فأخبره أحدهم بأنه يرغب في أن يصبح رجل اقتصاد، فيما قال آخر إنه يرغب في العمل كمحام بينما قال ديك إنه يرغب في السفر إلى أفغانستان؛ فقد كان يحلم منذ صغره بالمغامرة والإثارة، وفقا لما قاله ديك نفسه.

في ذلك العام تمكن ديك من زيارة أفغانستان بصحبة أخيه وكانت أفغانستان في ذلك الوقت تماما كما كانوا يصفونها «باريس الشرق» حيث كانت تعج بالمطاعم وصالات القمار والملاهي الليلية. ويروى لنا فان ديك أنه خرج ذات مرة وحده وتعرف على بعض الرجال من البشتون وذهب معهم إلى منزلهم أو بالأحرى خيمتهم وجاءت امرأة، وقدمت لهم الشاي والسكر وعندما نظر فان ديك حوله، اكتشف إنهم لا يملكون أي شيء، فقد منحوه كل ما كان لديهم، وكانت تلك بداية معرفته بعقيدة البشتون التي تقضي بإكرام الضيف وحمايته وإعجابه بها. بعد ذلك بست سنوات شاهد فان ديك برنامجا تلفزيونيا حول الاجتياح السوفياتي لأفغانستان وانتابه إحساس في تلك اللحظة بأنه سوف يعود مرة أخرى إلى هناك. وفي عام 1981 سافر إلى باكستان كصحافي يعمل لصالح «نيويورك تايمز» ومنها استقل القطار إلى بيشاور التي تعد مركز المجاهدين، وهناك التقى قادتهم وسافر للمناطق القبلية، ثم انتقل إلى أفغانستان وعاش مع المجاهدين على الحدود. وهناك التقى يونس خالص الذي ساعده على دخول المناطق القبلية، وتسلق فان ديك الجبال، وأقام مع جلال الدين حقاني.

يوم عيد الشكر في عام 1981 هاجم الجيش الأفغاني والقوات السوفياتية جماعة المجاهدين التي كان يتحرك معها. وكان يسمع طلقات الرصاص وهي تتطاير فوق رأسه ويرى وجوه الجنود وهم يقتربون منهم، ورأى الشاب الصغير الذي يقف إلى جواره وهو يقتل برصاصهم. وفي ذلك الوقت، أشار إليه قائدهم بأن يتراجع في محاولة لحمايته لأنه ضيفه. لقد مات العديد من الرجال في ذلك اليوم، وعلى الرغم من أن الدبابات الروسية كانت تحيط بالقرية، حرص المجاهدون على مساعدته على الفرار في المساء فقد كان وفقا لعقيدة البشتون ضيفهم وعليهم حمايته. وعندما عاد فان ديك إلى الولايات المتحدة نشر عدة مقالات في «نيويورك تايمز» تضمنت قصة من ثلاثة أجزاء رشحت لجائزة البوليتزر الصحافية، ثم ألف بعد ذلك كتابا بعنوان «في أفغانستان» يدور حول تجربته خلال تلك الرحلة.

ثم ارتحل إلى مناطق أخرى بعيدة لكتابة قصص صحافية أخرى، ولكنه ظل طوال الوقت يفكر في أفغانستان. وعندما وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، كان فان ديك في وول ستريت يقوم بعمله كصحافي حر وقد شاهد المبنى وهو ينهار، وعندما أشارت أصابع الاتهام إلى أفغانستان شعر بأنه عليه العودة إلى هناك. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2001، وبعد ثلاثة أشهر من الهجمات، وشهرين من الاجتياح الأميركي، سافر مرة أخرى إلى أفغانستان كمحرر لقناة «سي بي إس» الإخبارية وعمل على تغطية أخبار الحرب هناك، كما قدم تغطية صحافية لمقتل دانيال بيرل، الصحافي الأميركي الذي اختطف وقتل هناك.

وخلال السنوات الست التالية سافر في رحلات كلفته بها «سي بي إس» إلى أفغانستان وباكستان، ولكنه كان دائما يشعر بالانجذاب لمنطقة الحدود الباكستانية الأفغانية؛ فقد يرغب في العودة إلى تلك المنطقة القبلية التي عاش فيها مع المجاهدين والالتقاء بالقادة الذين يعرفهم منذ ذلك الوقت لكي يعرف حقيقة ما يحدث في هذه الحرب. وقع فان ديك في صيف 2007 عقدا لتأليف كتاب حول المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان، وهي المنطقة التي لديه خلفية عميقة حولها والتي تعتبر في الوقت الراهن معقل حركتي «القاعدة» وطالبان.

وفي عام 2008 وصل فان ديك إلى المناطق القبلية على الحدود الباكستانية الأفغانية مفتشا في حقيقة التحديات التي تواجهها أميركا هناك، ومتمنيا الالتقاء بكل من جلال الدين حقاني وقلب الدين حكمتيار، وكان يعلم حسب قوله أنه يلعب بالنار وأن تلك التجربة ستكون محفوفة بالمخاطر، لكنه لم يكن يتخيل بأنه سيخوض تلك التجربة التي تركت بلا شك آثارها عليه. وعلى الرغم من أنه كان يدرك جيدا أن ظروف المنطقة تجعل تلك الرحلة تنضوي على خطورة بالغة فإنه كان اعتاد على السفر إلى هناك ويحفظ أفغانستان عن ظهر قلب ولديه شبكة علاقات واسعة منذ أن كان يعيش مع المجاهدين في الثمانينات الذين يفرق فان ديك بينهم وبين مقاتلي حركة طالبان الذين اختطفوه، حيث إنه كان معجبا بالمجاهدين وكان يساندهم أثناء صراعهم ضد الاتحاد السوفياتي.

عندما وصل فان ديك إلى المنطقة الحدودية، حاصره عدة رجال مسلحون يرتدون العمامات السوداء واقتادوه إلى زنزانة مظلمة إلى حد انعدام الرؤية وضيقة للغاية حيث لم تكن مساحتها تتجاوز 3.5 في 3.5 متر، ولم يكن يدخلها الهواء. يقول فان ديك: «عندما اختطفوني سألني زعيمهم بلغة البشتون عن اسمي ثم عن اسم والدي» فأجبت ولكنني بعد ذلك لم أعد أستطيع مواصلة الحوار بلغتهم فقلت لهم: «أنا أميركي» ثم قلت: «أنا ميت». فقال قائدهم: «إننا نعمل على تقييم الموقف، فسنقوم بإجراء تحقيق، فإذا تبين أنك جئت إلى هنا مدعوا فأنت حر في أن تذهب، أما إذا لم تكن مدعوا فسوف نعتبرك جاسوسا». فقلت لقد انتهيت. ونظرت حولي ورأيت الدماء على الجدران والسلاسل على الأرض.

يروي ديك أن السجانين كانوا دائما يؤكدون له ولزملائه المسجونين أنهم لن يقتلوهم لأنهم ضيوفهم رغم أنهم كانوا يهددونه أحيانا بالموت إذا لم يتحول إلى الإسلام. وازداد إحساسه بالقهر عندما أجبره محتجزوه على الصلاة في محاولة لإقناعه بالتحول عن ديانته. ولم يلجأ فان ديك لإعلان إسلامه كذبا لأنه كان يثق في بصيرة خاطفيه الغريزية فكان يخشى أن يقتلوه إذا ما شعروا بأنه يكذب.

ولم يكن يسمح لهم بالخروج خارج تلك الزنزانة الخانقة إلا لعدة دقائق أثناء الليل، وكان كل يوم يمر يعتقد ديك أنه سيكون آخر يوم له في ذلك العالم. وزاد شك ديك في مترجمه وحراسه من وحشة سجنه؛ حيث كانت تساوره الشكوك بأنهم قد وشوا به إلى خاطفيه.

يقول: «لم تعد للعلاقات التي كونتها أي معنى في ذلك المكان حيث إنه عالم من الخيانة والظلمة والغموض والولاءات القبلية والخيانات القبلية أيضا».

في اليوم الرابع لأسره، أخذ ساجنوه مترجمه وحراسه إلى خارج الزنزانة واستجوبوهم ثم جاء قائدهم إلى فان ديك وجلس قبالته. في تلك اللحظات تداعت إلى ذاكرته تفاصيل مقتل دانيال بيرل التي كان قد غطاها وتتبع تفاصيلها، ولكن قائدهم جعله يتحدث أمام كاميرا فيديو وكان ديك يعتقد في ذلك الوقت أن لحظته قد حانت ولكن القائد أخبره أنه سيفاوض من أجل الإفراج عن اثنين من المعتقلين في غوانتانامو أو الحصول على فدية قدرها مليون ونصف المليون دولار.

يعلق ديك على ذلك قائلا: «حتى هذه اللحظة لم يتم الإفراج عن أي معتقلين في مقابل إطلاق سراحي»، كما لا يعرف فان ديك أي شيء عن فدية تم دفعها مقابل خروجه ولا يعرف سر إطلاق خاطفيه سراحه. ويتساءل: هل كانت الاستخبارات الأميركية أو مكتب التحقيقات الفيدرالي أو «السي بي إس»، أو السفارة الأميركية وراء الإفراج عنه، لا أحد يعلم.

وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من إتمام قصته الصحافية التي ذهب من أجلها، فإنه عاد بتجربة إنسانية عميقة ستترك بلا شك أثرها بداخله وبداخل كل من قرأ كتابه.