الانتحال ووأد كاتبة شابة

فضيحة ألمانيا الثقافية لعام 2010

غلاف الكتاب
TT

من يتابع النقاش الدائر على الصفحات الثقافية للصحافة الألمانية في هذه الأيام حول رواية «آكسولوتل رودكيل» الصادرة عن دار نشر «أولشتاين»، ومؤلفتها هيلينا هيغيمان، لا بد له أن يشعر بالشفقة على الشابة «المسكينة» التي كتبت روايتها ولها من العمر 17 عاما. إنها فضيحة ألمانيا الثقافية لعام 2010، لأن الرواية التي تبوأت بسرعة قائمة البيست سيلير ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة معرض لايبزغ الدولي للكتاب لهذا العام، ليست أخيرا، غير كولاج لنصوص جمعتها هيلينا هيغيمان من الإنترنت، والقسم الأكبر من تجميعها هذا كما ثبت، نقلته حرفيا عن مؤلف مغمور «بلوغير»، أطلق على نفسه «آيرين»، ويكبر الكاتبة «الناجحة» بعشرة أعوام.

الفارق طبعا بين الاثنين، هو أن بلوغير «آيرين» تحدث عن تجربته الخاصة التي مر بها في عالم المخدرات والإدمان على الكحول، فضلا عن تجاربه الجنسية، التي لم يفرق فيها بين الجنسين.

النص الأصلي هو نص مليء بالمرارة والغضب والرفض، رحلة حديثة في «جحيم» العالم السفلي لمدينة برلين، بكل ما يحوي عليه هذا العالم من فوضى وغضب، والتي خرج منها الشاب بأعجوبة. اليوم يعيش «آيرين» حياة برجوازية صغيرة تقليدية، متزوج وعنده طفل، وفي وظيفة يريد الحفاظ عليها، بكلمة واحدة يعيش «آيرين» حياة بعيدة عن الحياة التي تسردها الآن في كتابها الشابة هيلينا هيغيمان.

تسجيله لتجربته كان أقرب للتفريغ النفسي، كما يقول، ولم يكن هدفه يوما أن يصبح كاتبا، وذلك ما يوضح طريقته في الكتابة، فهي أقرب إلى تفريع حقيقي، من دون اللجوء إلى خيال أدبي وعالم روائي مواز، بكل ما يحويه هذا العالم من تعقد وتشابك، بكل ما تحويه شخصيات الرواية من تناقضات داخلية، كل تلك المبادئ التي تعتمد عليها رواية ما، أو كل ما يطلق عليه من تعقد في العلاقات الدرامية والحبكة وووو... وغيرها من العناصر التي يعتمد عليها السرد الروائي، وهذا ما يشترك فيه الاثنان في الحقيقة، النص الأصلي والنص المنتحل، المنقول عنه، على الرغم من الإضافات عليه، وعلى الرغم أيضا من أن هيلينا هيغيمان تأتي من عائلة مختلفة فهي ابنة المسرحي الألماني المعروف كارل هيغيمان.

لكن بغض النظر عن ذلك، تظل المشكلة التي تثيرها الفضيحة هذه هي ليست الإجابة عن السؤال الذي يشغل الصحافة الألمانية، هل الرواية الجديدة منتحلة أم لا؟ وإلى مدى يحق لكاتب ما الانتحال أو السرقة أو الاستنساخ أو التضمين، أو كما برع فيه النقد العربي في الحديث عن التناص، الذي هو في أغلب حالاته تلاص.

المشكلة الأهم في رأيي هي إلى أي مدى يعبر النص الجديد عن حرفية كاتبه الذي اعتمد على نصوص أخرى؟ إلى أي مدى ذهب في موضوعه بعيدا عن النص الأصلي الذي تأثر به؟ هل تحوي التجربة المعاشة في النص الجديد على مصداقية تجعلها تملك ماركتها الخاصة بها، وليس الماركة المسجلة للنص القديم؟ وفي ذلك عندنا أمثلة كثيرة، رواية «اسمي أحمر» لأورهان باموك التي ابتعدت كثيرا عن رواية الإيطالي أومبيرتو أيكو، «اسم الوردة»، على الرغم من تقارب عالميهما، أو رواية غارسيا ماركيز «غانياتي الحزينات»، التي سارت على خطى «الجميلات النائمات» للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا. طبعا ليست تلك هي المرة الأولى التي يتهم بها كاتب أو كاتبة بالانتحال أو السرقة، فالانتحال قديم قدم الأدب، عرفه اليونانيون مثلما عرفه الرومان، لكنه لم يبدأ رسميا وتحت هذا الاسم في الغرب، إلا في العهد الروماني منذ أن بدأ تشريع حقوق الملكية الفردية.

وإذا سببت تهمة الانتحال حالات من الاكتئاب والألم أو التوقف عن الكتابة عند بعض المبدعين، كما حدث لإيليا إيهرينبيرغ، وربما كانت سببا وراء انتحارهم، كما حدث لشاعر الثورة الروسية مايكوفسكي والشاعر الروماني الألماني الأصل باول تسيلان، فإنها وللمفارقة المرة الأولى التي يدافع فيها المنتحل عن انتحاله، ففي كل تصريحاتها الصحافية، لا تفهم الفتاة الصغيرة الضجة المثارة حولها، فما قامت به حسب اعتقادها أمر طبيعي ومسموح! وللطرافة أنها المرة الأولى أيضا التي يدافع فيها المُنتَحَل (بضم الميم وفتح الحاء) في هذه الحالة «آيرين» عن منتَحِله (بضم الميم وكسر الحاء)، ويجد فيما كتبه يعبر عن طاقة إبداعية كبيرة (سنأتي على سبب ذلك لاحقا)!

ليست مهمة هذا المقال الحديث عن الانتحال من ناحيته القانونية وتوضيح أحقية الملكية الفردية وتقسيم الأرباح، فمن المعروف اليوم أنه ليس هناك عمل يُتهم بالانتحال ما لم يكن عملا وصلت شهرته إلى نطاق واسع وشكلت مبيعاته أرقاما عالية، والقضية لها علاقة بالمال، كل ما يريده أولئك الذين يرفعون دعاواهم إلى المحاكم متهمين كتابا آخرين بانتحالهم هو الحصول على جزء من الأرباح التي حصل عليها الكاتب، ولا ننسى أن أغلب أصحاب الدعاوى هم كتّاب أخصائيين في مجالات أخرى، التاريخ أو العلوم وبكل أصنافها، ذلك ما حصل لرواية «العطر» لبيتر سوزكيند، عندما اتهمه عالم أخصائي بتاريخ صناعة العطور، بأنه أخذ القسم الأكبر من معلوماته من كتابه، وذلك ما حصل لدان براون في «شيفرة دافنشي» عندما رفع مؤرخان بريطانيان دعوى ضد المؤلف، وطالباه بحصة من الأرباح، هذه الحالات هذه التي اشتهرت في المحاكم، وحالات أخرى كما مع الرواية البوليسية «تينود» للكاتبة الألمانية أندريا ماريا شينكيل، التي رفع فيها أخصائي جنائي دعوى ضد المؤلفة، لأنها اعتمدت على كتاب له بحث في جريمة مشابهة حدثت في إقليم بايرن، وفي المكان نفسه الذي تحدثت عنه الرواية. كل الدعاوى هذه لم تربح، على الرغم من أننا نعرف قصصا أخرى، جرى الاتفاق فيها بين المؤلف (أو ناشره) وبين متهميه بالانتحال بتسوية الأمر عن طريق دفع مبلغ تسوية قبل رفع الدعوى. ذلك ما حدث لمؤلف ألماني اسمه فرانتز شيتزلينغ، وروايته «السرب».

والطريف في هذه الرواية، التي اعتمدت على معلومات تفصيلية لكيفية حدوث إعصار «تسونامي»، المنشورة في عام 2004، أنها ظلت مجهولة، مبيعاتها محدودة على الرغم من صدورها عن دار نشر ألمانية كبيرة، دار نشر كيبينهوير أوند فيتج، إلى حين حدوث كارثة الإعصار الذي تعرضت له إندونيسيا، فجأة اكتشف الجمهور الألماني هذه الرواية، لتتصدر بعدها ولأشهر طويلة قائمة البيست سيلير، وذلك ما أثار طبعا شهية العالم الألماني المختص بالبيئة ومطالبته الكاتب ودار النشر بدفع تعويضات له، حالات مثل هذه عرفها تاريخ الأدب الألماني أيضا.

«أوبرا القروش الثلاثة» العمل الذي جعل برتولد بريشت يشتهر بين ليلة وضحاها، لطشه بريشت من مؤلفه الأصلي بيكير، الذي ظل مسرحيا مغمورا على عكس بريشت، كان بريشت سخيا في دفعه مبلغا «دسما» من حصة نجاحه لبيكير، على الرغم من أن «أوبرا القروش الثلاثة» اشتهرت أيضا بسبب الموسيقى التي وضعها له الموسيقار كورت وايلد.

ويجب ألا ننسى أيضا براعة بريشت بانتحال قصائد من آخرين وتحويلها إلى ماركة خاصة به. قد يبدو الأمر غريبا بالنسبة لنا عربيا، ليس لأن العرب عرفوا الانتحال أيضا وتحدثوا عنه كثيرا، بل لأن القضية عندنا لها علاقة بالمكانة الأدبية والطليعية، والتأثير على أجيال، ولا علاقة لها بالمال، وتهم الانتحال عندنا لا تشبع ولاتسمن مَنْ يثيرونها، لأن في عالم تغيب فيه الحرية الفردية وانتهاك حقوق الإنسان، فإن آخر ما يمكن الحديث عنه هو احترام حقوق الملكية الفردية، اليوم يمكن عمل قائمة طويلة من روايات عربية اشتهرت في السنوات الأخيرة هي نسخ حرفي لروايات كتاب عرب آخرين لا علاقة لهم بالمشهد «الثقافي» العربي الرسمي!

الشابة الألمانية هيلينا هيغيمان، علقت في معرض ردها على الضجة الدائرة حولها، أن كل ما تقرأه يوميا هو يؤثر عليها ويمنحها أفكارا جديدة للكتابة، وهي لأنها شابة تقرأ كثيرا في الإنترنيت، ولا تستطيع أن تنسى ما تقرأه هناك يوميا، وإذا أثر عليها نص «آيرين» بشكل خاص، فبسبب قوته، وأنها تعتقد أن من حقها أخذ كل نص يعجبها في الإنترنت، لأنه ليس هناك قانون ينظم حقوق الملكية الفكرية في الإنترنت، وهذا ما جعلها تنقل الكتاب، لكن «المسكينة» لم تعرف إلا قبل أيام، أن ما كتبه «آيرين» في الإنترنت نشره لاحقا في دار نشر صغيرة «سوكولتور»، وهي دار النشر الصغيرة هذه التي أثارت القضية في الصحافة، لأن نجاح كتاب هيلينا هيغيمان جاء كهدية لها من السماء، وذلك أمر طبيعي بالنسبة لدار نشر صغيرة تتكون من شخصين، ومكتبها هو سرداب صغير في بيت سكن في برلين. بريشت دفع حصة من أرباحه لبيكير، وشيتزلينع أيضا، هيغيمان أيضا دفعت مبلغا من أربعة أرقام، لنقل 9999 يورو لـ«آيرين». كل الذين تحدثوا عن الموضوع أبدوا دهشتهم من اكتفاء صاحب النص الأصلي «آيرين» ودار نشره بذلك المبلغ التافه، لأن الرواية وصلت إلى طبعتها الرابعة، وتعدت مبيعاتها المائة ألف نسخة، لكن لأن المرء يتعلم دائما شيئا جديدا في السوق، ولأن الكتابة في أوروبا تخضع لاقتصاد السوق، كان على الجميع انتظار المفاجأة الجديدة التي سجلت تاريخا على طريقتها: المؤلف وناشره تنازلا عن رفع دعوى ضد الكاتبة أو ضد دار نشرها، لأن دار نشر «أولشتاين» التي هي دار نشر تجارية كبيرة، اتفقت مع «آيرين» على نشر كتابه مجددا وبطبعة أنيقة هذه المرة. الكتاب سيتصدر بالتأكيد قائمة المبيعات، وربما نافس كتاب هيلينا هيغيمان!

قبل أيام احتفلت المؤلفة الشابة بعيد ميلادها الثامن عشر في أحد الديسكوهات، وفي هذه المناسبة قرأت مقاطع من الكتاب، بصحبة موسيقى رقص صاخبة وشباب يرقصون على الحلبة.

وفي تحقيق صحافي عن الأمسية أجاب أحد الشباب الحاضرين هناك على سؤال عن رأيه في الأمسية «الأدبية» بالجملة التالية: «كل شيء جميل ورائع، فقط قراءة النص من قبل الكاتب هي التي كانت مزعجة». إنها مفارقة بالفعل، أن يُحتفى بكاتب ما، لكن من فضلكم من دون نصه!

ربما ستدخل هيلينا هيغيمان، التاريخ بصفتها شخصية تراجيدية، فهي على الأقل ساعدت كاتبا مغمورا بالحصول على المال والشهرة، بينما سيُحكم عليها هي بالفشل، فهي كاتبة وقعت مباشرة ضحية ماكينة الشهرة وتهم دور النشر التجارية. كاتبة تولد ميتة أدبيا منذ الآن، فماذا على المرء أن يفعل وهو يقرأ كل ذلك، غير أن يشعر بالشفقة على فتاة صغيرة أرادت أن تصبح «كاتبة» مشهورة لكنها وُئدت مبكرا؟