المؤسسات الثقافية السعودية.. هناك متشددون ولكن الساحة مفتوحة للتعددية

اللائحة الجديدة للأندية تؤسس لمجالس منتخبة

جمهور من المثقفين السعوديين في إحدى أمسيات جمعية الثقافة («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من الإجراءات التي اتخذتها وزارة الثقافة والإعلام السعودية منذ نحو أربع سنوات لإعادة صياغة المؤسسات الثقافية المحلية، وإعادة (التوازن) لبعضها، لخلق فضاء أكثر تسامحا، ومشهد أكثر استيعابا لمختلف الأطياف الثقافية، فإن التجربة تعرضت لامتحان شديد.

ففي أكثر من مكان تعثرت مسيرة التسامح، وارتفع صوت التشدد، ومعظم الأندية وجمعيات الثقافة والفنون شهدت سجالات متعددة بسبب استخدام الموسيقى أو عرض مسرحيات أو أفلام، وتحول الحوار بين المثقفين داخل بعضها إلى تراشق بالعبارات والاتهامات والتصنيف. ولا يعتبر هذا الاختلاف خارجا عن المألوف في ساحة تعج بالجدل بين القديم والجديد، ولكن (نكوص) المثقفين الذين استودعوا أمانة المؤسسات عن تحمل مسؤولياتهم في قيادة العمل الثقافي الجامع والمتعدد، هو الأكثر إثارة.

في التحقيق التالي، يتحدث مثقفون ومسؤولون في القطاع الثقافي عن هذه القضية:

* المليحان: فرملة الإصلاح

* في البدء، يتحدث جبير المليحان، رئيس النادي الأدبي في المنطقة الشرقية، عما سماه النقلة النوعية في مسيرة المؤسسات الثقافية السعودية، وبينها الأندية الأدبية، متأثرة بسياسة الدولة، في ترسيخ خطوات متدرجة نحو الإصلاح، لكنه يلاحظ أن المثقفين أنفسهم الذين تسلموا زمام القيادة لهذه المؤسسات، لم يكونوا ربما مؤهلين لاستيعاب خطوات إصلاحية. وقال المليحان: «لا يمكن أن نجزم بأن كل مجالس إدارات الأندية هي مع الإصلاح والانفتاح الذي يحتاج إليه المجتمع؛ فالبعض منهم يفرملون ويجرون العربية إلى الوراء، إما بشكل مباشر، أو بضغوط من فئات متشددة تعرف أن الإصلاح يهدد مصالحها الخاصة، وهو ما حدث في الجوف مثلا».

يرى المليحان أن التشدد بدأ يزحف على بعض المؤسسات الثقافية، لكن الساحة الثقافية والأدبية السعودية عموما مفتوحة للتعددية وجميع الاتجاهات الفكرية. ويقول بهذا الصدد: «لأكثر من ثلاثة عقود كانت كل مؤسسات التعليم، والثقافة، وكل المنابر التي يتلقى منها الجمهور ثقافته، حكرا على فئة واحدة، تسرح فيها وتمرح، تعطي وتمنع، تقرب وتقصي، وتكفر. لكن ثورة المعلومات، وانفتاح الفضاء، والفضائيات، وسرعة وسهولة التواصل، ووصول المعلومة مباشرة إلى أي كان، في أي بقعة كانت من الأرض، دون رقيب، فتحت العقول المتعطشة للمعرفة والتغيير، فكان هذا الحراك الكبير، والأسئلة التي طالت الكثير من المسلمات». ويضيف: «ما هو مطلوب الآن من الأندية الأدبية - لتبقى مفتوحة لجميع الاتجاهات الفكرية - أن تعمل بجد، وأن تفعّل وزارة الثقافة والإعلام مواد لائحة الأندية الأدبية الجديدة، التي تفضي إلى عقد الجمعيات العمومية والانتخاب المباشر لمجلس الإدارة من قبل هذه الجمعية».

وفيما إذا كانت نزعة التشدد تعيق عمل بعض المؤسسات، قال المليحان: «ما تحتاجه المؤسسات الثقافية هو الموقف الرسمي الواضح والحازم، تجاه هذه الإعاقات. إن الأندية الأدبية مؤسسات مجتمع مدني مرخصة، ومن واجبها أن تنشط وفق رؤيتها منطلقة من لوائحها التي تنظم أنشطتها».

وبرأي المليحان، فإن مكافحة التشدد والتصلب، ليس مسؤولية المؤسسات الثقافية، فهذه «المشكلة موجودة في الجمهور وليس في إدارة المؤسسات، ومسألة الإقصاء متجذرة في مجتمعنا منذ عقود، ومعالجة ظواهرها، لا يعني أنه تم القضاء عليها».

* الزهراني: لتُشرع الأبواب

* من جانبه، أقر رئيس نادي الباحة الأدبي، في جنوب السعودية، حسن الزهراني أن هناك بعض الأندية الأدبية التي تمارس «الرؤية الأحادية»، لكنه يستدرك بالقول: «لا يوجد تشدد مخيف فيها حتى الآن». ويشير إلى أن «هناك جماعات كبيرة تنحو نحو الانفتاح العريض بمواصفاته العالمية، في الوقت الذي تجهد فيه لإقصاء المتشددين أو الأصوليين».

ويتحدث الزهراني عن نادي الباحة الذي يرأسه، فيشير إلى أن هذا النادي لا يخضع لأي توجه أي كان، مبينا أنه «ليس هناك آيديولوجية معينة تتحكم في دفة نادي الباحة»، وأن إدارته تدعو «كل ألوان الطيف الفكري من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وعلى مختلف المستويات الإبداعية دون أي تحيز لطرف على حساب الآخر».

ودعا الزهراني المثقفين والمبدعين مهما اختلفت توجهاتهم إلى تقبل الآخر، «فما زالت لدينا حدة في نظرتنا إلى من يخالف منهجنا الأدبي، ولا أدري متى تصبح لدينا ثقافة التسامح والتعامل مع كل الأطياف والتيارات الأدبية بوعي وبعد نظر، لنفتح أبوابنا وقلوبنا للجميع ونسع كل من حولنا بخلقنا الرفيع، ولنترك كل الينابيع تتدفق بعفويتها وجمالها دون وصاية».

* الحربي: لا تناحر فكريا في جازان

* وليس بعيدا عن الباحة، يقف أحمد الحربي، رئيس نادي جازان الأدبي، مع الرأي القائل بأن المؤسسات الثقافية مهما اختلفت أماكنها «تسير وفق ما خطط لها»، وأن أنشطتها «لا تخرج عن الإطار العام».

في نادي جازان، لا يرى الحربي، هيمنة من أي طرف، أو إقصاء في أي اتجاه، لأن «نادي جازان يعمل لاحتواء جميع الأطياف الأدبية». وهو لا يرى من شأن أي تشدد أن يعيق العمل الثقافي، موضحا أن «الأندية الأدبية السعودية، ما هي إلا مؤسسات مدنية أنشأت من أجل رعاية الأدب والثقافة، وهي مفتوحة للجميع، ولا تحتاج ضمانات، لتبقى مفتوحة، لأنها لم تغلق في وجه أي أديب أو مفكر»، ويشدد الحربي أن «نادي جازان الأدبي يسير على هذا المنوال، ولا يشهد أي شكل من أشكال التناحر الفكري».

ويستبعد الحربي وجود أي شكل للصراعات الفكرية في السعودية، «فالاتجاهات الثقافية تكاد تكون محدودة، والاتجاهات الفكرية قليلة جدا لا تكاد تذكر، والمنجز الثقافي السعودي لم يتأثر بأي أفكار أو صراعات».

* حسين: مرحبا بالصراع

* وبرأي القاص حسين علي حسين، فإن الأصل أن تظل جميع النوافذ مشرعة في المؤسسات الثقافية، دون وصاية أو توجيه من أحد. وهو لا يتخوف، كمثقف، من انتشار ظاهرة التشدد والإقصاء في المؤسسات الثقافية، لأن هذه الممارسات جرى اختبارها في السابق، «عندما كان رئيس النادي فقط هو من يفكر ويقرر وقبل ذلك يضع الخطط»، موضحا أن المثقف كان قد عانى هذه الأحادية كثيرا، بخلاف ما عليه الأندية حاليا، «حيث أصبح هناك مجلس إدارة تعرض عليه الفعاليات، فيقوم بدراستها ويصوت عليها الجميع وما تغلب عليه الأصوات يجد طريقه للتنفيذ والنشر».

أما حقيقة استفحال الصراعات الفكرية والثقافية، فبرأي حسين، أن «الصراعات موجودة منذ الأزل، وهي مرحب بها، شريطة الالتزام بأدب الحوار والاختلاف».

* الرباعي: الانتخابات قادمة

الناقد السعودي، الدكتور علي الرباعي، يقول إنه لم يكن هناك تواطؤ مسبق داخل المؤسسات الثقافية كالأندية على اتخاذ منهج محدد، على الرغم من أن لكل عضو انتماءه وتياره الفكري أو الديني.

ويشير الرباعي إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تطبيق اللائحة الجديدة للأندية الأدبية، وفيها مساحة واسعة لدفع المثقفين لاختيار مجالس إدارات الأندية والمؤسسات الثقافية، مؤكدا أن «الذي يفوز هو التيار المنظم أو الطرف الثقافي الذي لديه حس واعٍ بأداء الانتخابات وآلياتها من خلال تكتلات أوبرامج تعجل بنتيجتها»، مقرا في الوقت نفسه بأحقية أي طيف أو تيار ثقافي وبموجب اللائحة أن يخوض التجربة حتى ولو تسلم إدارة النادي تيار ديني.

وافترض الرباعي أن تكون اللائحة مرجعية لعمل المؤسسة وتحديد أطر العلاقة بين التيارات والسلطة والمجتمع، مبينا أنه في حالة غياب شروط ومواصفات تدير هذه العلاقة بحنكة، فإنها ستفتح الباب على مصراعيه لأدلجة الأدب والثقافة والتيارات الفكرية.

وقال الرباعي، إن المنابر التي ترعى الثقافة ليست الأندية، وإنما هناك أوعية أخرى هي المسؤولة عن خدمة الثقافة، موضحا أن الثقافة لا يخدمها إلا المثقف الحقيقي الذي يعمل فقط لأجل الثقافة وليس الأدلجة.

ودعا الرباعي الجهات المسؤولة بوضع إطار عام وفق شروط وضوابط تخدم الثقافة السعودية، دون إقصاء أو تجاوز لأي حد أو تيار، مقرا في الوقت نفسه بأنه لم يعد هناك صراع آيديولوجي حقيقي حاليا.