الطاهر وطار «يعود هذا الأسبوع»

TT

هناك كتاب يراكمون إبداعاتهم، فلا تستطيع أن تضع أصبعك على عمل محدد لهم كان وراء تميزهم أو شهرتهم. وهناك كتاب آخرون يستولون عليك دفعة واحدة، أو يحققون بعمل واحد أو عملين ما يحققه غيرهم بعشرة أعمال أو أكثر. والأمثلة على هذا النوع الثاني كثيرة في الأدب العالمي والعربي قديما وحديثا، ولعل أبرزهم عربيا الطيب صالح بروايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، والكاتب الجزائري كاتب ياسين بروايته «نجمة»، والكتاب العراقي محمد خضير بمجموعته القصصية «المملكة السوداء». ينتمي الكاتب الجزائري الطاهر وطار، الذي رحل يوم الخميس الماضي، لهذا النوع. فما إن صدرت مجموعته القصصية الأولى «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» عن وزارة الإعلام العراقية عام 1975، حتى تكرس واحدا من أهم كتاب القصة العرب، وعمت شهرته الآفاق العربية من بغداد إلى الرباط. وفي تقديرنا، أن وطار ظل يدور في عوالم قصته «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» التي سميت المجموعة باسمها، ويعيد إنتاجها جوهريا، بشكل مختلف، وبرؤى أعمق، في مجمل أعماله الروائية والقصصية اللاحقة. ولا يشكل ذلك بالطبع منقصة في تجربته الأدبية، فعالم الثورة، وبشكل خاص الثورة التي تأكل أبناءها، كالثورة الجزائرية هنا، وتطور المجتمعات الإنسانية، متخذا المجتمع الجزائري مثالا، ومراحل سير هذا المجتمعات الدائرية، وليست المستقيمة، انسجاما مع فكره الماركسي، هي الموضوعات المركزية الكبرى التي شكلت عالم الوطار الروائي، بمده وجزره، وهي، أيضا، التي حددت مصيره كإنسان ملتزم، على الرغم من كل الإشكالات الفكرية التي حصلت في المرحلة الأخيرة من حياته، وخاصة موقفه من الحركة الإسلامية في بلاده.

في «الشهداء يعودون هذا الأسبوع»، يكشف الطاهر وطار كيف تاجر المنتفعون والوصوليون بتضحيات مليون شهيد جزائري. إنهم سيفعلون كل شيء لضمان عدم عودة هؤلاء الشهداء، فهم يعتاشون على موتهم ذاته، ويستحوذون على السلطة باسمهم. حياتهم، بكل زيفها وأكاذيبها، هي نتاج لموت أولئك الشهداء. فكيف يمكن أن يعودوا ثانية؟ كأن الاستقلال كذب، والحرية كذبة، والاشتراكية كذبة، والمساواة كذبة، وكأنهم ماتوا من أجل لا شيء، بل كأنهم ماتوا ليعيش الانتهازيون، سارقو الثورة والوطن والفقراء. هؤلاء الشهداء لو عادوا فسيقتلون هذه المرة على يد المتاجرين باسمهم، إخوانهم بالأمس، وليس على يد الأعداء، كما حدث للمسيح في رواية «الإخوة كرامازوف» لدوستويفسكي، حين سجنه الراهب الأعظم عند عودته إلى الحياة، وهو الذي يبشر نفاقا بتعاليمه ليل نهار.

في «اللاز» أيضا، روايته الأهم ربما، يرسم وطار، ابن الثورة الجزائرية وأحد المقاتلين في صفوفها، صورا حقيقية عن البشاعات التي تحدث باسم الثورة، وكان سبّاقا في كشفها أمام عيون العالم، من دون أن يتخلى عن النضال داخل صفوفها، ومن هنا تأتي مصداقيته. من يستطيع أن ينسى مشهد ذبح حمدان، القائد الشيوعي، وأحد قادة الثورة الجزائرية، على يد هؤلاء القادة أنفسهم، بعدما خيروه بين التخلي عن مبادئه الفكرية وبين الذبح، فاختار الأخير؟ ولقي المصير نفسه شيوعيون فرنسيون وإسبان تطوعوا للقتال في صفوف الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وخضعوا للاختيار التراجيدي نفسه: التخلي عن مبادئهم أو الذبح. بعد نحو عشر سنوات، سيتناول رشيد بوجدرة الموضوع نفسه تقريبا في روايته «التفكك» - أول رواية يكتبها بالعربية مباشرة - فنرى الطاهر الغمري يلقى المصير نفسه على أيدي قادة الثورة. إنه موضوع لا ينتهي. وقد سجله قبلهما كتاب كثيرون، وخاصة اندريه مارلو في روايته «الوضع البشري» التي تناولت الثورة الإسبانية. ولا تخرج روايات وطار اللاحقة، «الزلزال»، «الشمعة والدهليز»، و«العشق في الزمن الحراشي» - التي تناولت صعود الإسلاميين - عن هذا الإطار العريض. وما يحسب للطاهر وطار أنه من الكتاب القلائل، الذين تحولت عندهم مواضيع الثورة والسلطة والإنسان إلى مواضيع مركزية في رواياتهم وحياتهم أيضا، ولكن بقدر كبير من التوازن الفكري والأدبي. فهو داخل الثورة، ولكن خارجها في الوقت نفسه، مما أتاح له رؤية فضائلها ومثالبها، وصعودها وانحناءاتها، ومصيرها اللاحق. وظل وطار جزءا من هذا المصير المعقد والمتشابك حين تحولت الثورة إلى سلطة أكلت ما تبقى من تلك الثورة التي هزت العالم وقتها. ظل وطار داخل السلطة وخارجها أيضا. دخل في معارك معها، وفي سلام أيضا، فهي تبقى، رغم كل شيء، «سلطة وطنية تقدمية»، ويجب مساندتها، كما كان ينظر آنذاك من سموا بـ«مفكري وعلماء» الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق والأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، لأنظمة الحكم في مصر وسورية والعراق والجزائر، حتى دفعوا الثمن باهظا. وما يسجل لوطار، مرة أخرى، أنه أخرج هذه الصراعات الفكرية من الأروقة الحزبية الضيقة إلى العلن. وكانت هذه العلنية جريمة كبرى في الأعراف الحزبية آنذاك، وربما ما تزال كذلك، رغم أن الكل يتحدث عن الشفافية الآن. والأهم، أنه نجح في تحويل هذه القضايا المركبة إلى فن روائي متقدم في أحسن أعماله، مرتفعا بها إلى مستوى الرمز الذي يتجاوز المكان والزمان، كما في أي عمل فني باق .