مسجد قرب مركز التجارة العالمي: إنها أميركا يا عزيزي!

تسعينية الفيلسوفة البريطانية ماري ماغدلي أطلقت النقاش قبل سنة

مؤيد لخطة انشاء مركز إسلامي ومسجد بالقرب من «غراوند زيرو» يرفع لافتة مكتوبا عليها «ادعموا الحرية الدينية» (رويترز)
TT

رأي الرئيس الأميركي باراك أوباما الداعم لبناء مسجد بالقرب من برجي مركز التجارة العالمي الذي دمرته أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، أثار جدلا واسعا في الولايات المتحدة منذ الرابع عشر من أغسطس (آب) الحالي. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هذا الرأي الرئاسي يأتي في خضم نقاشات عميقة حول الحرية والدين في أميركا، بدأت منذ العام الماضي، وشارك فيها باحثون، ومفكرون وأكاديميون. في أي سياق يأتي موقف الرئيس أوباما، وما هي المناخات الفكرية التي تحيط به؟ هذا ما يوضحه التحقيق التالي.

منذ السنة الماضية، وقبل الضجة المثارة، حاليا، حول بناء مسجد في نيويورك بالقرب من المكان الذي كان فيه «مركز التجارة العالمي» ودمره هجوم 11 سبتمبر سنة 2001، بدأ نقاش وسط مثقفين أميركيين عن العلاقة بين الدين والحرية. وركز النقاش على نقطتين:

أولا: هل تشمل الحريات حرية الدين، وما حدود ذلك، وماذا عن الإساءة لأحاسيس الناس؟

ثانيا: هل الدين هو أساس الحريات، ولماذا لا يتحدث الناس عن دور الدين في تأكيد الحرية؟

بدأ النقاش، السنة الماضية، بمناسبة احتفال مجموعة من المثقفين الأخلاقيين الأميركيين بعيد الميلاد التسعين للفيلسوفة البريطانية الأخلاقية ماري ماغدلي. وهي مؤلفة كتب مثل: «جذور الطبيعة البشرية» و«تجارب أخلاقية»، و«ويكيدنيث» (الخبث)، و«الحرية والأخلاق»، و«العلم والخلاص الديني». كان والدها قسيسا في جامعة كامبردج، ودرست في الجامعة نفسها. ولم تبدأ في كتابة كتبها إلا عندما وصلت إلى الستين من العمر. وعن هذا كتبت: «أنا سعيدة لأني فعلت ذلك، وما كنت أعرف أسس أفكاري قبل ذلك».

وعلى الرغم من أنها تربت في عائلة مسيحية، أعلنت أنها ليست مسيحية. تؤمن بالله، ولكن «بطريقتي الخاصة»، كما كتبت. ويعكس كتابها: «هل نقدر على أن نصدر أحكاما أخلاقية؟» أفكارها في موضوع الدين والحرية. كتبت في هذا المؤلف: «لن يقدر العلم وحده على تفسير قضايانا الحالية؛ من تفسير الخليقة، والذكاء الصناعي، وهندسة الجينات، واستخدام التكنولوجيا. يبدو لي أن النقاش عن كل هذه الأشياء ليس إلا تأجيلا للقضية الأساسية والحتمية، وهي: ما هي أخلاقنا؟ ليس العلم أخلاقا وعقيدة، ولن يكون. لنبحث عن عقيدة تفسر لنا هذه التطورات السريعة التي تحيط بنا، ونشاهدها كل يوم هنا وهناك».

وقالت ماري ماغدلي إن النقاش حول حرية الدين يتحاشى حقيقة مهمة، وهي أن الدين هو أساس الحرية، وأن هناك شيئا أهم من الحرية، وهو المعرفة، وقسمت المعرفة إلى قسمين:

القسم الأول: الذي عنده المعرفة كلها (إشارة إلى الذات الإلهية) لا يحتاج إلى حرية لأنه وصل إلى الحقيقة.

القسم الثاني: الذي ليست عنده المعرفة، أو عنده جزء منها (إشارة إلى البشر) يحتاج إلى الحرية ليصل إلى الحقيقة.

وكتبت: «ما دمنا لا نعرف الحقيقة، يجب ألا نمنع الناس من البحث عنها، ويجب ألا نحجر حرية ذلك».

وعن العدل، قالت إنه جزء من هذه المعرفة. أي أن الحرية هي طريق الوصول إلى العدل (لهذا، لا تجب المساواة بين الحرية والعدل: الأولى هي التي تقود إلى الثاني).

وعن الفردية، قالت إنها بغيضة إذا كان الهدف منها هو الأنانية، ومقبولة إذا كان الهدف منها أن يكون الإنسان فردا حرا مستقلا، لأن ذلك يساعده على التعبير عن الرأي من دون خوف من آخرين. وبالتالي يساعد على النقاش للوصول إلى تفسيرات مقبولة لما هو عادل وما هو ظالم.

ربما يوجد أكثر المثقفين الأميركيين اهتماما بآراء ماري ماغدلي عن الدين والحرية في «معهد دراسات المعرفة البشرية» (آي إس إتش كي) في بالو التو (ولاية كاليفورنيا). معهد أسسه روبرت أورنشتاين، أستاذ في جامعة ستانفورد القريبة. ومؤخرا، عقد المركز ندوة عن «الروحانية المسيحية ودورها في التطورات المعاصرة»، وأشار بحث عن الحرية والدين إلى أن جذورهما تعود إلى محاولات بشرية بدأت قبل الأديان السماوية، وأن الفراعنة وقدماء اليونانيين والرومانيين: «من ناحية، اخترعوا عجلات وأدوات ري وزراعة (تطورات علمية). ومن جانب آخر، ناقشوا المعرفة البشرية (تطورات إنسانية). وسألوا: من نحن، ومن أين جئنا، ومن يدبر الأمور، ولماذا الحياة، وماذا بعد الموت؟ ولهذا، اخترعوا إله: الشمس، والبحر، والنار، والحب، والحرب، والسلام... الخ».

وقال البحث، إن الأديان السماوية، على الرغم من أنها قدمت إجابات «مقنعة»، اختلف الفلاسفة في تفسيراتها: متى يسمح بالقتل ومتى لا يسمح به، ماذا يؤكل وما الذي لا يؤكل، من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن، ما هو الإيمان، والصدق، والحق، والباطل؟

وكان البحث عن إجابات لهذه الأسئلة وسط الأوروبيين من أسباب التطورات الآتية:

أولا: الإصلاح الديني (لأن رجال الدين لم يقدموا إجابات مقنعة).

ثانيا: النهضة الثقافية (في استقلال عن رجال الدين، طور الناس ثقافاتهم بأنفسهم).

ثالثا: العقد الاجتماعي (في استقلال عن رجال الدين، خطط الناس ليحكموا أنفسهم بأنفسهم).

رابعا: الحركات الوطنية (في استقلال عن رجال الدين، أسس الناس الأوطان ككيانات غير دينية، علمانية أو شبه علمانية).

ومن الذين اشتركوا في هذا النقاش، دونالد ماكيم، أستاذ في المدرسة اللاهوتية في ممفيس، ولاية تنيسي، الذي أشار إلى أن مارتن لوثر، مؤسس الإصلاح المسيحي في أوروبا في القرن السادس عشر، لم يكتب فقط عن التمرد على بابوات الفاتيكان، وعن صكوك الغفران. ولكن كتب أيضا عن الحرية. في سنة 1520، كتب «مقالات في الحرية المسيحية»، وخاطب فيها ما سماها «الأمة الألمانية المسيحية النبيلة». وقال إن أساس الحرية ليس أن يلتزم الإنسان بما هو مكتوب في الإنجيل (لأن الناس يختلفون في تفسير الإنجيل)، ولكن «أن ينتهج الإنسان مسلكا فرديا نحو نفسه، ونحو جيرانه، ونحو الله، وهو يؤمن إيمانا عميقا بأن الله سيرضى عنه».

وقال إن ذلك، طبعا، يفتح الباب أمام تصرفات يراها آخرون غير دينية. ولهذا، وضعت قوانين تمنع الإساءات الدينية، مثل «بلاسفيموس» (تجديف) و«ساكريليجاص» (تدنيس مقدسات وانتهاك حرمات).

لكن، مع مرور الزمن، وزيادة الحرية والمعرفة، ألغت دول غربية كثيرة هذه القوانين، وقررت أن «لا علاج لمشكلات الحرية إلا بمزيد من الحرية»، وأن الخيار بين الحرية والإساءة الدينية يجب أن يميل نحو الحرية. ويعيد كل هذا إلى الأذهان الجدل الجديد بعد إعلان الرئيس السابق بوش الحرب العالمية ضد الإرهاب (جي دبليو أو تي)، والخوف من هجمات إرهابية على أميركا. يتركز الجدل الجديد على الخيار بين الحرية والأمن. وذلك لأن القوانين الأمنية، وزيادة دور مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آي) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، وأجواء الخوف والانتقام والحروب، صارت تؤثر على الحرية التي تأسست عليها الولايات المتحدة.

وفي هذا كتب ديفيد إيرانيوس، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا: «في هذا العصر الذي تأكدت فيه حرية الفرد، صارت أهم من أي شيء آخر. نعم، أهم من أمنه. صحيح، يسأل البعض: «ما هي فائدة الحرية إذا لم أكن آمنا؟ لكنى أسأل: من غيري يعرف إذا كنت أحس بالأمن أو لا؟»، وربط بين ذلك والنقاش عن حرية الدين، والسماح لكل فرد أن يحدد صلته بربه. وسأل: «من غيري يعرف علاقتي بربي أكثر مني؟ أنا أحدد علاقتي بربي، ومن باب أولى، أنا أحدد علاقتي بنفسي، متى أحس بالقرب من الله أو لا أحس، متى أشعر بالحرية أو لا أشعر؟ متى أحس بالخطر أو لا أحس؟»، إذا انتقد إيرانيوس «حساسية» الحكومة الأميركية في موضوع الأمن والخوف من الإرهاب والإرهابيين والإسلاميين، انتقد آخر «حساسية» المسلمين في موضوع الإساءة إلى دينهم، وقال: إن حرية الدين طريق ذو اتجاهين.

هذا هو بول كوب، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة نوتردام (ولاية إنديانا)، ومؤلف كتب عن الحروب الصليبية، ينتقد ما سماها «حساسية مفرطة» من جانب مسلمين، اعتراضا على الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد التي نشرتها صحف أوروبية، وكانت سبب مظاهرات عنيفة في مدن إسلامية. ويقول بول كوب: «يعارض مفسرون مسلمون رسم الناس، وخاصة النبي محمد. لكن، لا يعنى هذا أنها غير موجودة», وأشار إلى رسم للنبي محمد يخطب في مسجد في مكة من كتاب أبو ريحان البيروني (فيلسوف فارسي من القرن الحادي عشر الميلادي).

وحسب بحث كتبه دانيال دينيت، أستاذ الفلسفة في جامعة تافت (ولاية ماساتشوستس)، ومؤلف كتاب «الحرية تتطور»، بفضل الحرية المتطورة انتقل الناس من العام إلى الخاص، من الأوطان واستقلالها وحريتها، إلى الأفراد. حتى الوقت الحالي، بعد كل هذه الحريات التي حققها الغربيون، يظلون بحاجة إلى حرية أكبر ليقدروا على الوصول إلى عدل أكثر. وليقدروا على حل قضايا لم تكن حاسمة بالنسبة لحرية الفرد، لكنها صارت كذلك، مثل:

أولا: حرية الفرد الجنسية (فيما يتعلق بالمثلية الجنسية مثلا).

ثانيا: حرية الفرد «العدائية» (الخط الفاصل بين الإساءة والأذى. لا يمنع الدستور الأميركي الإساءة!).

ثالثا: حرية الفرد الأمنية (الخط الفاصل بين حرية الفرد وأمنه. وكم يضحي بالحرية للحصول على الأمن).

رابعا: حرية الفرد الدينية (الخط الفاصل بين التعبير عن رأي في دين معين، وإغضاب الذين يمارسون هذا الدين).

عن هذه النقطة الأخيرة، في الأسبوع الماضي، كتب فريد زكريا، أميركي مسلم هاجر من الهند، ورئيس تحرير مجلة «نيوزويك»، أن «الحساسية» طريق ذو اتجاهين. وقال إنه إذا اعترض بعض الناس على بناء مسجد في نيويورك بالقرب من مكان مركز التجارة العالمي الذي دمره هجوم 11 سبتمبر سنة 2001، وقالوا إن المكان «مقدس» وإن بناء المسجد يؤذي «أحاسيسهم»، ففي الجانب الآخر، يرى المسلمون أن مسجدهم «مقدس»، وأن منعهم من بنائه في أي مكان يريدون أيضا يؤذي «أحاسيسهم«.