أميركا لا تزال عنصرية

70% من البيض و12% من السود ينظرون إلى البشرة السوداء بسلبية

TT

أثبتت دراسة أن 82% من الأميركيين لا يزالون عنصريين، والغريب أن 12% من الذين خضعوا للدراسة هم من السود الذين يفضلون البيض على أبناء جلدتهم، لكن دراسات أخرى تقول إن العنصرية مسألة تتجاوز الجنسيات كما تتجاوز الوعي إلى اللاوعي الذي هو ذاته لا يزال سرا دفينا بالنسبة لكبار المختصين. وبالتالي، فالعنصرية ليست حكرا على شعب دون آخر وإن تفاوتت من بلد إلى آخر. لكن المثير فعلا أن أهل الاختصاص في أميركا باتوا يقرون بعجزهم أمام ظاهرة تتفشى في بلادهم ولا تزال تحيرهم.

في الشهر الماضي وخلال أسبوع واحد، صارت شيرلي شيرود التي فصلها وزير الزراعة الأميركي، أشهر موظفة في الوزارة، وربما في كل أميركا. ظهرت في التلفزيونات، عقدت مؤتمرات صحافية، وقالت إنها «ستفكر» في عرض قدمه لها شخصيا وزير الزراعة بإعادة تعيينها، في وظيفة أعلى وبراتب أكبر. ثم اعتذر لها المتحدث باسم البيت الأبيض. وعندما استمرت الضجة، اتصل بها تلفونيا الرئيس باراك أوباما، واعتذر. وقالت إنها قبلت الاعتذار، لكنها تريد أن تقابله، لأنها تريد أن تعلمه «بعض دروس الحياة التي تعلمتها». ووصفت شيرود أوباما بأنه «قليل التجارب في موضوع التفرقة العنصرية. ولم يمر بالمشكلات العنصرية نفسها التي مررت أنا بها».

بدأت المشكلة عندما تحدثت شيرلي شيرود في مؤتمر للأميركيين السود، وقيل إنها أساءت للبيض، ولهذا فصلها وزير الزراعة. لكن، في وقت لاحق، تأكد أنها لم تفعل ذلك، ولهذا اعتذر لها وزير الزراعة، ثم الرئيس أوباما. ويتوقع أن يدعوها أوباما إلى البيت الأبيض في «مصالحة نبيذ»: يجلس هو في الوسط، وتجلس هي (السوداء) في جانب، ويجلس وزير الزراعة (الأبيض) في الجانب الآخر، ويصالحهما. في السنة الماضية، وبعد ضجة عنصرية مماثلة، لأن شرطيا أبيض اعتقل أستاذا أسود في جامعة هارفارد، دعاهما أوباما إلى البيت الأبيض في «مصالحة بيرة»، وجلس بينهما، وصالحهما.

وقال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن الحدثين يدلان على نقطتين:

أولا: حساسية العلاقات بين البيض والسود في الولايات المتحدة، بسبب تاريخ تجارة الرقيق والقوانين العنصرية، واستمرار التفرقة بصورة أو أخرى.

ثانيا: صار فوز أول رئيس أسود برئاسة الجمهورية سببا لكثرة الحديث عن العلاقات بين السود والبيض. إيجابيا، بمحاولات نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة. وسلبيا، بمحاولات يمينيين ومتشددين تقليل قيمة أوباما وإنجازاته بسبب لونه.

في جانب البيض، يوجد تيار يشك في قدرة أسود على أن يحكم أميركا (والعالم). وفي جانب السود، يوجد تيار يرى أن أوباما لا يمثل السود، لأن أمه بيضاء، ولأنه تربي في عائلة بيضاء، ولم يعاني معاناة السود الحقيقيين، مثل شيرلي شيرود.

ونشرت صحيفة «واشنطن بوست» رأيا صريحا كتبه شارلز أوغلتري، مدير معهد الأعراق والعدل التابع لجامعة هارفارد في كامبردج قال فيه: «مصالحة نبيذ، مصالحة بيرة، مصالحة شمبانيا. هكذا نريد بطريقة شبه هزلية وشبه ساذجة معالجة أكبر مشكلة اجتماعية تواجه الولايات المتحدة منذ أن تأسست وحتى اليوم».

في آخر عدد من دورية «بوبيولار كالشر» (الثقافة الشعبية)، كتب الرجل بحثا عنوانه: «العرق والطبقة والجريمة في أميركا»، اقتباسا من كتاب بالعنوان نفسه، وقال: «كلما ظهرت مشكلة بين أبيض وأسود، ومن دون أن نحس، نجد أنفسنا ننحاز إلى هذا الجانب أو ذاك. ودائما، يوجد نوعان من المنحازين:

أولا: المتطرفون في هذا الجانب أو ذاك، الذين لا يخفون أحاسيسهم، سواء كراهية أو تفرقة.

ثانيا: العقلاء والمعتدلون الذين يقولون إنهم محايدون. لكنهم، في أعماقهم، يعرفون أن هناك ما يجذبهم نحو هذا الجانب أو ذلك».

وأضاف: «أثبتت الأبحاث العلمية أن الذنب ليس ذنب العقلاء والمعتدلين. الذنب هو ذنب المجتمع، وذلك لأن التفرقة (عنصرية، ومالية، وتعليمية، ووطنية، ورجالية، ونسائية) مغروسة غرسا عميقا في المجتمع، تراثا وتاريخا وتقاليد. وحتى لو صرنا عقلاء ومعتدلين، نحس بأن في أعماقنا شيئا يجذبنا نحو هذه الجماعة أو تلك. وحتى لو ألغينا كل قوانين التفرقة، نحس بأن هناك تفرقة مبطنة».

وأثبتت أبحاث علم النفس أن اللون يلعب دورا رئيسيا في تحديد المشاعر. وبينما يدل اللون الأبيض على شيء إيجابي، يدل اللون الأسود على شيء سلبي، ولذلك أسباب تاريخية وثقافية، منها:

أولا: رغم حضارات سادت وبادت وسط السود والسمر (الفراعنة في مصر، والأزتكس في المكسيك، وما بين النهرين في العراق)، يسيطر البيض على الحضارة الحديثة.

ثانيا: ثقافيا، وحتى في الكتب الدينية، صارت كلمة «أسود» تعني الظلام والظلم والتشاؤم والقبح وسوء الحظ. وصارت كلمة «أبيض» تعني النهار والتفاؤل والجمال والحظ السعيد.

ثالثا: رغم انتشار الحضارة الحديثة في كل العالم تقريبا، لا يزال السود أقل حظا: سود أميركا وأفريقيا، كما سود الهنود «الحمر» في أميركا الجنوبية، وسود غينيا وجنوب المحيط الهادي.

رابعا: اليوم وفي الولايات المتحدة، يظل السود في أسفل السلم الحضاري: أقل تعليما، أقل انسجاما عائليا، أكثر فقرا وجريمة وانحرافا، وأكثر إباحية.

وقال أوغلتري: «كلنا طيبون ومهذبون وحضاريون ونقول إننا لسنا عنصريين. لكن، في العقل الباطني تفرقة خفية، ويجب أن نواجهها. يجب أن نتحدث، خاصة في عهد أول رئيس أسود، في هذا الموضوع بصراحة».

قبل خمس سنوات، ألف ديفيد أوين، وزير خارجية بريطانيا السابق، كتاب «الغطرسة: بوش وبلير وإدمان السلطة». كان أوين من كبار السياسيين البريطانيين الذين عارضوا غزو العراق، وكتب هذا الكتاب السياسي، تحدث فيه عن «الغطرسة» (هيوبريس). وقال إنها نوعان: علني (مثلما فعل الرئيس السابق بوش الابن، ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير عندما تحالفا ضد العراق)، وباطني (في أعماق كل واحد، يحس بأنه أكثر حضارة من الآخر).

يمكن أن يكون هذا الاستعلاء الحضاري بسبب تعليم أكثر، أو مال أكثر، أو حرية أكثر. ويحس صاحب شهادة دكتوراه بأنه أحسن من صاحب شهادة المدرسة الثانوية. ويوجد خط رفيع بين الافتخار بالدكتوراه وبين الاستعلاء (والغطرسة) على صاحب الشهادة الثانوية. لكن، طبعا، تعلو الأخلاق على الشهادات والأموال والقوة السياسية والعسكرية. وربما لهذا كتب اوغلتري: «لسنا عنصريين، لكننا بشر». وأشار إلى «أمبليست تيست» (الاختبار الباطني) الذي وضعه مهزارين باناجي (أميركي أصله من الهند)، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد.

يختبر الاختبار العقل الباطني كالآتي: يجلس إنسان أمام كومبيوتر. وكل مرة يظهر على الشاشة وجه أسود أو أبيض. ويضغط الإنسان على زر سلبي أو إيجابي. وتتغير الوجوه سريعا حتى لا يقدر الإنسان أن يفكر ويتفلسف، لأن الهدف هو العقل الباطني وليس العقلاني. وحسب إحصاءات الفريق النفسي في جامعة هارفارد، ربطت نسبة 82 في المائة من المشتركين بين الوجه الأسود والسلبية من جانب، والوجه الأبيض والإيجابية من جانب آخر. فعل ذلك سبعون في المائة من البيض و12% من السود

وفسر الفريق النفسي العقل الباطني لهؤلاء السود كالآتي:

أولا: لا ينظرون إلى لونهم، ولكن إلى لون الشخص الأسود في الشاشة.

ثانيا: يتأثرون بالوضع السلبي للسود في المجتمع.

ثالثا: يعرفون «إخوانهم» جيدا، أي إن في حياتهم كثيرا من السلبيات.

وقال تقرير الفريق النفسي: «تؤثر حقيقتان على نفسية كل إنسان: لا نعرف ما في داخل عقولنا. وإذا عرفنا، لا نقدر على التعبير عنه. رغم التقدم العلمي، نظل نجهل أشياء كثيرة، ليس فقط لأننا لا نعرفها، ولكن، أيضا، لأننا لا نعرف كلمات تصفها».

واشترك في النقاش مالكولم غلادويل، صحافي في مجلة «نيويوركر»، وأميركي هاجر من بريطانيا، وقبل أربع سنوات كتب كتاب «بلنك» (رمشة عين): كيف نفكر من دون أن نفكر؟

وكتب: «عندما نحكم على آخرين في (رمشة عين)، نحكم عليهم: أولا: سريعا. وثانيا: من دون معلومات كافية».

وقال إن «رمشة عين» تؤكد «ستيريوتايب» (صورة نمطية)، وهي مشكلة الحكم على الناس حكما عاما اعتمادا على معلومات قليلة. في رأي البيض، أن السود غير متحضرين، وفي رأي السود، أن البيض عندهم غطرسة، وفي رأي الأميركيين أن البريطانيين باردون، وفي رأي البريطانيين أن الأميركيين من دون تراث.

واشتركت في النقاش إيمي واكس، أستاذة قانون في جامعة بنسلفانيا، ومؤلفة كتاب: «العرق: الأخطاء والحلول». ويبدو أنها مغرمة ليس فقط بألوان الناس، ولكن، أيضا، بألوان الأشياء، لأنها كتبت أيضا كتاب «الألوان في حياتنا». وكتبت رأيا في صحيفة «وول ستريت جورنال» عنوانه: «كلنا في العقل الباطني عنصريون».

قالت إن وضع السود في أميركا تحسن كثيرا خلال الخمسين سنة الماضية، حتى صار واحد منهم رئيسا. لكن، «يجب أن يثير هذا التقدم ضد التفرقة العنصرية نقاشا جديدا عن التقدم ضد التفرقة العنصرية في العقل الباطني». وكتبت أن العنصرية توجد وسط كل الطوائف والشعوب: وسط السود، والسمر، والصفر. لكنها، وهي البيضاء، قالت «إن البيض هم الأكثر عنصرية».

وكتبت عن صعوبة معرفة خفايا العقل الباطني. لكن يبدو أن هناك حقيقة واحدة عرفها العلماء عنه، وهي أنه يربط بين شيء وشيء. إذا رأى رجل امرأة يربطها بالجنس، وإذا رأى أبيض شخصا أسود يربطه بالتأخر والجهل والجريمة.

لكنها قالت إن النظرة الأولى والصورة النمطية لا تكفيان لتفسير كل شيء.

واشترك في النقاش أستاذ آخر في جامعة هارفارد هو مايكل نورتون، وانتقد محاولات تفسير العقل الباطني. وقال:

أولا: لا نقدر على ربط شيء بشيء في العقل الباطني، لأننا لا نعرف العقل الباطني.

ثانيا: لا تعني النظرة الأولى «رمشة عين» أي شيء، لأنها سريعة.

ثانيا: لا يعني الميل نحو البيض حبهم، ولا يعني النفور منهم كراهيتهم. والعكس بالنسبة للسود.

ثالثا: يقدر الإنسان على التفرقة من دون أن يكره أو يحتقر.

وركز مايكل نورتون على مثال معين: وقال إن أبحاثا علمية أثبتت أن بيضا يعترفون بميول عنصرية يرفضون تعيين سود، أو يترددون في ترقيتهم، أو يسارعون بفصلهم.

لكن، ماذا عن البيض الذين يقولون إنهم ليسوا عنصريين؟ ماذا عن العقل الباطني هنا؟ هل يفعلون الشيء نفسه من دون أن يعترفوا به؟ هل لا يعرفون أنهم يعرفون؟ هل يعرفون أنهم لا يعرفون؟

وهناك أسئلة أخرى: ماذا عن الكراهية التي تؤدي إلى العنف؟ ماذا عن عدم الاحترام الذي يؤدي إلى الرغبة في الاحترام؟ إذا كانت التفرقة في أعماق كل إنسان، كيف نفسر حال الإنسان الذي يعطف على الذين يختلف عنهم؟

يبدو كما قالت إيمي واكس، كاتبة رأي «كلنا عنصريون»: «النفس البشرية معقدة جدا». وأضافت: «ليس لهذا الموضوع صلة بالحقيقة. بدأناه كعلم جاد، ثم وجدنا أنه عاطفة وميول. كيف نحكم على الميول والعواطف؟».

وفي بحث علمي مشترك كتبه هارت بلانتون، أستاذ علم نفس في جامعة نورث كارولينا، وجيمس جاكارد، أستاذ علم نفس في جامعة فلوريدا إنترناشونال، أن نوعا من أنواع التفرقة، علنيا أو خفيا، يوجد في كل علاقة بين إنسان وآخر: بيض وسود، سمر وصفر، رجال ونساء، أزواج وزوجات.

ومؤخرا، اقترح الصحافي جي ديكسي: «بسبب التفرقة في أماكن العمل، وضع مقياس في كل مكتب رئيس لقياس تفرقته. مثل مقياس ضغط الدم، والسكري». ويبدو أن جاك غليسار، أستاذ علم نفس في جامعة كاليفورنيا، استسلم، لأنه كتب: «لا يعرف العقل الباطني غير صاحبه. مهما يكن، حاول أن تصلحه».

وأخيرا، يتجادل المثقفون الأميركيون في هذا الموضوع، ويغني مغنٍّ على مسرح في شارع برودواي النيويوركي في مسرحية «أفنيو كيو»: «كل واحد منا عنصري أحيانا. لا يوجد عمى ألوان. لا نكره ولا نحتقر، لكننا نفرق ونفضل عائلتنا، قبيلتنا، أولادنا، وأهم شيء: أنفسنا...».