كراهيات منفلتة.. وأخرى عريقة

انتعاش الكراهيات بين البشر يستمد قوته من العزلة

TT

عن «الدار العربية للعلوم» (ناشرون) ومقرها بيروت، صدر الأسبوع الماضي، كتاب «كراهيات منفلتة.. قراءة في مصير الكراهيات العريقة»، للدكتور نادر كاظم.

يقع الكتاب في 272 صفحة، ويتوزع على ستة فصول تتناول واحدا من النوازع البشرية العنيدة والعدوانية، وهو الكراهية. وهو يتناول الكراهية بوصفها نزوعا عدوانيا يتسم بالعمق والتجذر في نفوس البشر. وهذا على خلاف ما ذهب إليه بعض الحداثيين ودعاة التحديث، وكثير من الشيوعيين اليوتوبيين الذين حلموا، في الماضي، بعالم بلا طبقات وبلا عداوات وبلا صراعات وبلا كراهيات. فعلى الرغم من تقدم الزمن فإن العداوات والتناحرات والكراهيات والأحقاد العنيدة بين البشر لم تختف، بل ما زالت الكراهيات المنفلتة إلى اليوم قادرة على الاستفزاز والجرح والإيذاء، بل إنها ازدادت قدرة على ذلك مع زوال عزلة الجماعات (القوميات والأديان والطوائف)، واهتزاز فضاءاتها الخصوصية المغلقة، وتقدم الاتصالات بحيث صارت أخبار الكراهيات وحوادثها تنتقل بسرعة فائقة، وصارت تستحث معها، في كل مرة، انعكاساتها الخطيرة. وكأن «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» الذي ابتدعته البورجوازية، كما جاء في الكتاب، وراهن عليه الماركسيون فيما بعد، قد بدأ يفعل فعله ولكن بطريقة عكسية. فالتعصب والتقوقع القوميان لم يتراجعا، وموقف العداء داخل الأمة وبين الأمم لم يختف، والكراهيات بين البشر لم تهتز. بل صارت تتغذى على هذا «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» والاتصالات، وتتوسل به، بل تطوعه لصالحها.

وبحسب الكتاب، فإن انتعاش الكراهيات بين البشر إنما كان يستمد قوته من العزلة الجغرافية ومن التقوقع والانكفاء القديمين بين الجماعات. وقد تمكنت الجماعات، في ظل هذه العزلة، من إنتاج كراهياتها وتداولها دون تكاليف باهظة. والسبب في ذلك أن العزلة كانت تؤمن الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات داخل كل جماعة. إلا أن هذا استنتاج متسرع، كما يقول الكتاب، لأن التواصل المكثف أصبح حقيقة اليوم بفضل التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام، غير أن العزلة ما زالت قائمة، والكراهيات العريقة ما زالت منتعشة. والسبب أن وسائل المواصلات والاتصالات وسائل مرنة وطيعة ويمكن استخدامها في خدمة الأغراض المختلفة. بمعنى أن الجماعات تستطيع أن تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة «قرية كونية»، ومشبوكا من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك، اليوم، بالتوسل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة.

لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه ذلك «التسهيل اللامتناهي للمواصلات» والاتصالات في تقريب البشر، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود الجغرافية التي كانت تفصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، زوال عزلة الجماعات؛ لأن الجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، كما أن هذا لا يعني، بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها، وبدلا من العزلة المكانية سنكون أمام عزلة تواصلية.

يعيد الكتاب النقاش مجددا في علاقة العزلة بالكراهيات، وفي دور تكنولوجيا الاتصال والمواصلات في وضع حد لهذه العزلة وكراهياتها العريقة. وهو ينتهي إلى القول بأن الاتصال المكثف لا يهدد العزلة لكونه يسهل حركة البشر ويحسن من كفاءة اتصالاتهم، بل إنه يهدد هذه العزلة حين يتمكن من تجاوز عزلة البشر التواصلية، وحين يضع الآخر أمام الذات على نحو واقعي ومتخيل، وحين يحمل الجماعات على الالتفات إلى الآخرين ومراعاتهم، وأخذهم بعين الاعتبار من أجل التعامل معهم باحترام يليق بهم، الأمر الذي يحفظ للناس كرامتهم الإنسانية ويؤمن لهم العيش المشترك. والثابت، كما جاء في مقدمة الكتاب، أن البشر لا يتورعون عن التعبير عن كراهياتهم بفظاظة جارحة في ظل غياب الآخرين المستهدفين بالكراهية، إلا أنهم (وهذا مرهون بألا يكونوا وقحين) يحسبون ألف حساب حين يقف هؤلاء المكروهون أمامهم وجها لوجه على نحو واقعي أو متخيل. قد نسمي هذا النوع من أخلاقيات مراعاة الآخرين والالتفات إليهم باهتمام مجاملة أو حتى تقية أو نفاقا، لكنه ليس بالضرورة كذلك؛ لأن التقية والنفاق تصرفان أنانيان، ويتأسسان، بالدرجة الأولى، على الاهتمام بالذات ومراعاتها وحمايتها من الأذى، كما أن الالتفات إلى الآخرين، في التقية والنفاق، لا يكون إلا بدافع الخوف والخشية من قوة هؤلاء الآخرين، في حين أن أخلاقيات المراعاة تنطوي على ضرب من الاهتمام بالآخرين بالدرجة الأولى، إلا أنه اهتمام من نوع مختلف؛ لأنه لم يكن، كما في التقية والنفاق، بدافع الخوف من قوة الآخرين، بل بدافع الاحترام، احترام الجانب الإنساني فينا وفيهم. وهذا الاحترام هو الذي يدفعنا إلى مراعاة الآخرين والحرص على تجنب جرحهم والإساءة إليهم عمدا. ويبدو أن هذا النوع من مراعاة الآخرين، لا تكنولوجيا الاتصال ولا غيرها، هو الذي يمكن أن يهدد العزلة، وهو الذي يمكن أن يؤمن التعايش والتواصل البناء والإيجابي بين البشر، الأمر الذي يمكن أن يضع مصير الكراهيات العريقة أمام مرحلة حرجة.

مؤلف الكتاب هو أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين، ويشرف على إدارة مجلة «العلوم الإنسانية»، ومجلة «ثقافات» البحرينية، وقد صدر له من الكتب: «الهوية والسرد.. دراسات في النظرية والنقد الثقافي»، و«المقامات والتلقي»، و«طبائع الاستملاك.. قراءة في أمراض الحالة البحرينية»، و«تمثيلات الآخر»، و«استعمالات الذاكرة»، و«خارج الجماعة»، إضافة إلى كثير من الدراسات المنشورة في دوريات عربية محكمة.